من الثورة إلى السقوط .. "حَلَب" تكتب تاريخًا جديدًا "ملف"

  • 166
قوات الأسد بعد دخولها حلب


التدخل العسكري الروسي قلب المعادلة لصالح "الأسد"

ترجيحات بوجود اتفاق بين "أردوغان" و"بوتين" عجّل بتهاوي الجبهة الشرقية

خبير عسكري: المدينة لم تسقط بعد فما زال 35% من مساحتها بيد الثوار

بشار انتصر لكن الصراع لم ينتهِ.. والساحة السورية أصبحت منطقة نفوذ دولية واسعة

"موسكو" استغلت الفراغ السياسي لواشنطن وكثفت هجماتها

إيران تصف المشهد بالانتصار على الكفار.. وتهدد بتكراره في اليمن والبحرين

فوهات بنادق "الأسد" تتوجه نحو إدلب.. وتحذيرات من محرقة جماعية

المعركة عقائدية.. و"خامنئي" وصف الشعب السوري بالكفار

غياب ملحوظ للدور العربي في الأحداث.. واندماج الفصائل والقيادة الموحَّدة طريق الثوار للمواجهة

 

أعد الملف – محمد عبادي

 

 في منتصف ليل 12 ديسمبر الجاري أُطلِقت رصاصة الرحمة التي ينتظرها متابعو الأحداث في المدينة التي تشهد قصفًا عنيفًا ودمارًا هائلًا منذ نحو شهرين على يد سلاح الجو الروسي، ومدفعية نظام الأسد، وشبيحة الشيعة من العراق ولبنان وأفغانستان وغيرها.

إذن سقطت حلب في قبضة بشار الأسد ونظامه بعد 5 سنوات من الكرّ والفرّ؛ لتدخل الثورة السورية مرحلة جديدة من عمرها، لما للمدينة من أهمية استراتيجية وجغرافية ستكون الغلبة فيها -ولو مرحليًّا- لنظام الأسد بعد سنوات من ترجيح كفة الثوار.

 

حَلَب على خط الثورة

في 15 مارس 2011 انطلقت التظاهرات ضد نظام الأسد من عدة مدن سوريا، لكن حلب ودمشق بدتا هادئتين.

تأخرت حَلَب طويلًا حتى انضمت تحت لواء الثورة السورية، ويرجع ذلك لحلف الأثرياء والتجار مع بشار الأسد؛ الأمر الذي لم يدم طويلًا، إثر القمع الذي تعرض له المتظاهرون في كل الأنحاء السورية الثائرة، وفي شهر أغسطس من العام ذاته انطلقت تظاهرات ضخمة تحت شعار "لن نركع إلا لله" وأطلق النظام الرصاص وقتل وجرح الكثيرين؛ فكانت الشرارة.

وفي فبراير 2012 التحقت حَلَب بركب المعارَضة، وبعد أشهر انتزع الثوار ريف حَلَب من يد قوات الأسد.

وفي 19 يوليو 2012 قاد أبناء المدينة "معركة حلب الكبرى" واستمر القتال الشرس عدة أيام انتهى بإعلان الفصائل ريف حَلَب محررًا، كذلك السيطرة على أحياء صلاح الدين وسيف الدولة والصاخور والسكري وهنانو في قلب مدينة حَلَب.

وعن المنعطفات الرئيسية في مسيرة حَلَب منذ مشاركتها في الثورة حتى سقوط أحيائها الشرقية، قال الدكتور أحمد الهواس الباحث والمفكر الاستراتيجي السوري، كانت المدينة بعيدة إلى حدّ ما من الثورة في بدايتها لا سيما في مراحلها السلمية, ولا يخلو الأمر من مظاهرات عُرفت بالطيارة.

وأضاف الهواس لـ"الفتح": أمّا على مستوى الريف فقد التحق بالثورة مبكرًا, ونظمت الصفوف عسكريًا بقيادة عبد القادر الصالح قائد لواء التوحيد, وحُرِّرت أجزاء كبيرة سواء على مستوى الريف أو المدينة؛ وهنا تغير كثير من الأمور، ورأى كثير من العارفين بالشأن السوري أنّ حَلَب بمساحاتها الشاسعة وعدد سكانها الكبير قد يُشكل عبئًا على الثوار, وأن النظام لم يكن يملك قدرة على تغطية هذه المساحات الشاسعة, وقد كان بإمكان الثوار منذ البداية العمل على قطع طريق خناصر؛ فيتم خنق النظام في أماكن سيطرته.

وشدد على أن خونة الأكراد, وتحالف عدد من تجار حَلَب مع النظام -فضلًا عن وجود منطقتين شيعيتين تشاغلان الثوّار، بجانب غياب السلاح النوعي ودخول الطيران الروسي مع الحلف الطائفي على الأرض- أعطى أفضلية لقوات الأسد لقطع طريق الكاستيلو وحصار المدينة.

هكذا أحكم الثوار قبضتهم على أرياف حلب والأحياء الشرقية حتى تدخل سلاح الجو الروسي لصالح بشار الأسد قبل عام من الآن؛ ما أدى إلى تغير المعادلة.

 

لماذا حَلَب؟

عسكريًا ركز بشّار جهوده في معركة حَلَب، فالطيران الروسي يغطي سماء المعركة، والميليشيات الشيعية الإيرانية والعراقية والأفغانية واللبنانية إضافة إلى القوات الخاصة الروسية، تقاتل بريًّا؛ مما خلّف عشرات القتلى ومئات الجرحى يوميًا.

ويُرجع ميسرة بكور، الباحث السوري ومدير مركز الجمهورية للدراسات وحقوق الإنسان، ذلك لكون حَلَب أكبر محافظة من ناحية عدد السكان (6 ملايين نسمة)، كما تعتبر العاصمة الاقتصادية لسوريا، حيث يوجد بها غالبية الصناعات والنشاط التجاري، وتعد المدينة الخزّان البشري السُنّي، ولها دور معنوي كبير، فقد كانت قلعة الجهاد ضد البيزنطيين والصليبيين.

وعن أهمية المدينة لنظام بشار الأسد قال الدكتور أحمد الهواس: إن سيطرة قوات الأسد على حلب سيعطي دفعة معنوية كبيرة لهم، تدفعهم إلى مواصلة القتال بعد هزائم كبرى مُنوا بها،

والأمر أيضًا متعلق بالوجود الرافضي على حدود تركيا؛ وهذا يعني أن أنقرة باتت مطوقة بقوس شيعي ممتد، من الموصل في العراق حتى الساحل السوري غربًا.

خريطة النفوذ العسكري في المدينة

سيطرة نظام الأسد على الأحياء الشرقية من حَلَب ليس كل ما يجري هناك، المدينة بأريافها تشهد صراعًا محتدمًا على جبهات عدة، جبهة حَلَب الشرقية كانت إحداها فقط، فهي تتمثل في جبهة المدينة وريفها الجنوبي والغربي، والتي انتهت لصالح قوات الأسد؛ أما جبهة الريف الشمالي فمازالت تشهد صراعًا محتدمًا بين فصائل المعارضة وتنظيم "داعش"، وفصائل المعارضة وقوات سوريا الديمقراطية (أكراد) من جهة ثانية، و"داعش" وقوات سوريا الديمقراطية من جهة ثالثة.

أما عام 2015 فشهد تغيرًا كبيرًا لخريطة النفوذ العسكري في حَلَب؛ فالتدخل العسكري الروسي في سبتمبر 2015 ساعد قوات الأسد وحلفاءه، وتقدموا على حساب فصائل الثوار في ريف حَلَب الشمالي والجنوبي؛ أما أكتوبر 2015 فشهد إعلان وحدات حماية الشعب الكردية تشكيل قوات سوريا الديموقراطية التي حظيت بدعم أمريكي لاحقًا مما مكّنها من لعب دور بارز في المشهد حيث استطاعت السيطرة على عدة بلدات في ريف حَلَب الشمالي من فصائل الثوار، وفي أغسطس 2016 سيطرت على مدينة منبج وريفها وتحركت تجاه مدينة جرابلس على الحدود التركية، ومدينة الباب التي تربط بين شرق حلب وغربها.

وفي أغسطس من العام ذاته أعلن عن تشكيل غرفة عمليات "درع الفرات" المدعومة من تركيا بعد توغل قوات الأكراد المتمثلة في قوات سوريا الديمقراطية على الحدود التركية ومناطق فصائل الثوار؛ بهذا باتت محافظة حَلَب ساحة لصراع دولي تتشابك وتتعقد فيه المصالح؛ فالولايات المتحدة تدعم الأكراد على الحدود التركية، ما دفع تركيا للنزول لحلبة الصراع،  وروسيا تدفع بثقلها مع نظام الأسد، وفي المدينة وريفها الجنوبي ترتع الميليشيات الإيرانية.

في هذا الصدد يؤكد العميد حاتم الراوي الخبير العسكري السوري، أن حلب لم تسقط بعد، فما زال 35% من أراضي المحافظة بيد الثوار وقوات "درع الفرات"، بالإضافة إلى وجود تنظيم "داعش" الإرهابي في مدينة الباب، ويسيطر الأكراد عبر قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيًّا على نحو 20% من المحافظة, بينما يسيطر نظام الأسد على مدينة حَلَب وريفها الجنوبي والغربي.

 

(خريطة التدخل الدولي والقوى الفاعلة)

 

الدولة

المشاركة

الجبهات

الحليف

العدو

أمريكا

قوات جوية
خبراء

منبج وريفها
مارع وريفها

قوات سوريا الديمقراطية، فصائل الموك

فصائل الثوار الإسلامية، تنظيم "داعش"

روسيا

قوات جوية
خبراء

مدينة حَلَب
أرياف حَلَب

قوات الأسد

فصائل الثوار كافة

تركيا

دعم مدفعي

الحدود التركية السورية

درع الفرات

قوات "سوريا الديمقراطية"، و"داعش"

إيران

قوات برية

مدينة حَلَب
ريف حَلَب الجنوبي

قوات نظام الأسد

فصائل الثوار

 

 

كيف سقطت الأحياء الشرقية؟

منذ انطلاق معركة حَلَب في منتصف عام 2012 وفصائل الثوار يقتسمونها، لكن التدخل الروسي قلب الطاولة على الثوار بعد سنوات من الكَرّ والفَرّ؛ فمنذ بداية الصيف الماضي تعرضت أحياء حَلَب الشرقية (مناطق نفوذ الثوار) إلى حصار خانق، استطاعت فصائل الثوار بقيادة "جيش الفتح" في أغسطس 2016 من فكّه والتقدم نحو مناطق قوات الأسد.

هذا الإنجاز لم يكتب له الاستمرار بسبب كثافة غارات الطيران الروسي، واستفادت قوات النظام والميليشيات الموالية له من محاصرة المدينة مرة ثانية، وتكرر الأمر في شهر أكتوبر مع إعلان فصائل الثوار "ملحمة حَلَب الكبرى"، غير أن غارات الروس كانت لهم بالمرصاد، بالإضافة إلى تسارع وتيرة سقوط أحياء حَلَب الشرقية.

 

يرى ميسرة بكور أن الدعم الجوي الروسي إضافة إلى الميليشيات الإيرانية وغيرها قلبت الطاولة على الثوار، والغارات الجوية الروسية قتلت ما يزيد على 10 آلاف سوري في الفترة ما بين سبتمبر 2015 حتى أكتوبر الماضي، والحرب الروسية شملت المستشفيات والأسواق وتجمعات المدنيين، مؤكدًا أن الشعب السوري بجميع فصائله يعتبر القوات الروسية محتلة غاشمة.

ورجح بكور أن اتفاقًا ما بين تركيا وروسيا تم في أغسطس الفائت، عجّل بتهاوي جبهة حلب الشرقية؛ فقد سحبت معركة درع الفرات -التي تدعمها  تركيا- العديد من الفصائل المسلحة إلى جبهات القتال مع تنظيم "داعش" والأكراد بالبلدات الحدودية؛ ما فرّغ أحياء حَلَب الشرقية من المقاتلين.

 

وأضاف الباحث السوري أن الحصار المفروض من يوليو الماضي أصاب الإمدادات العسكرية والمعيشية في مقتل؛ ما خلّف مشادات بين الفصائل، متهمًا أصدقاء سوريا بالتخلي عن الثوار في لحظة فارقة، مع استغلال الروس حالة الفراغ السياسي الأمريكي الذي عادة ما يصاحب انتقال السلطة من رئيس إلى آخر.

 

وجهة النظام بعد معركة حَلَب

في مطلع الشهر الجاري صرّح بشار الأسد لصحيفة "الوطن" السورية الرسمية بأن الانتصار في معركة حَلَب سيغير مسار الصراع في سوريا، لكن هذا لا يعني نهاية الحرب.

 

إذن الأسد حقق انتصارًا في معركة، لكن الحرب مستمرة، قال الدكتور أحمد الهواس إن نظام الأسد لا يستطيع خوض معركة فعلية، بل يعمد إلى القصف المدمر بالطيران بمساعدة روسيا, والضرب بأسلحة غير تقليدية؛ لأنه يفتقر للقوى البشرية، مما يدفعه لاستقدام مزيد من الميليشيات الشيعية.

ويرى الهواس أن وجهة النظام ستتجه نحو إدلب، والأسد عمد إلى تكديس قوى المعارضة وفصائل الثوار في إدلب؛ ليسهل عليه حرقها بعد الفراغ من حَلَب؛ محذرًا من خطة الروس الرامية إلى تطبيق نموذج "جروزني" في حَلَب ومن ثم إدلب, أي حصر الثوار في مكان واحد ومن ثم إعمال القتل والإبادة.

وعلى صعيد آخر، احتفلت إيران بسقوط حَلَب، ووصفت المعركة بالانتصار على الكفار، مهددة بتكرار ذلك في اليمن والبحرين.

في هذا الشأن اعتبر محمد صابر مدير مركز الأئمة للدراسات، أن وصف "خامنئي" للميليشيات الشيعية بأنه جهاد ضد الكفار، بأنه فتوى بتكفير الشعب السوري، مؤكدًا أن حرب إيران ضد السنّة هي  حرب عقائدية، مستنكرًا تجاوز الحكومات العربية هذا البعد الاستراتيجي للتعامل مع الأحداث كملف سياسي بحت، وشبه صابر إيران بحكومة الكيان الصهيوني التي تتعامل على أساس عقدي في كافة ملفاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

كما شدد مدير مركز الأئمة للدراسات لـ"الفتح" على أن "طهران" تضع نصب أعينها البحرين واليمن، مطالبًا بإنشاء تحالف إسلامي فعّال لمواجهة هذه الهجمة، ودعم عربي متكامل لعاصفة الحزم، لدحر الحوثيين وبتر الذراع اليمنية هناك.

وقال صابر إن الوحدة العربية أصبحت خيارًا لا يقبل النقاش، مشددًا على ضروة امتلاك أسباب القوة، وتدشين مرحلة إنشاء صناعة السلاح والدواء للإفلات من الهيمنة العالمية، وضروة مراجعة الالتزام بالاتفاقيات العالمية العقيمة، منوهًا إلى شلل الأمم المتحدة وتغاضيها عن قضايا العرب والسنّة في سوريا والعراق واليمن وغيرها.

تـجاذبات دولية لما يجري في حلب

تشهد الساحة الحلبية ردة فعل عالمية، تتناسب مع حجم التدخل الإقليمي والدولي في سوريا.


يقول العميد حاتم الراوي الخبير العسكري السوري أن روسيا التي اطمأنّت لإغماض أمريكا عينيها عنها، عن سياسات الأرض المحروقة، ما دعا تركيا إلى التدخل، مستثمرة علاقتها بمعظم الفصائل لرعاية الاتفاق بين روسيا وهذه الفصائل، والخروج باتّفاق هو أقرب إلى اتفاق الإذعان والاستسلام، للحفاظ على من تبقى من المدنيين على قيد الحياة.

بينما يشير الناشط السوري ربيع الخطيب إلى وجود شبه إجماع دولي من قبل القوى العظمى على إنهاء الثورة السورية, ولكن بدرجات.

وأشار المحلل السياسي أحمد الهواس إلى تراجع الدور التركي، نتيجة الضغوط عليه, وأشار أن الأتراك لديهم قناعة أنهم مستهدفون.

واستنكر الهواس تراجع الدور العربي والخليجي لدعم الثورة السورية، منوهًا إلى اختفاء دور من أطلق عليهم "أصدقاء سوريا".

 

خيارات فصائل الثوار والمعارضة بعد حَلَب

 لاشك أن سقوط  حَلَب له أثر استراتيجي على الصراع السوري، لكن أمام فصائل الثوار الكثير من الخيارات لمعاودة الانتصارات، ومواجهة الأسد وحلفائه.

يعتبر اندماج الفصائل، والقيادة الموَحَّدة، هي أبرز الدروس المستفادة من الأحداث الأخيرة.

هذا ما أكده ربيع الخطيب الناشط الإعلامي السوري بأن الثورة تمر بمنعطف خطير، مطالبًا الثوار وخاصة القادة بنبذ الخلافات والتوحد ومحاربة التبعية للخارج والوصول لقرار سوري وقيادة سورية موحدة تجمع جميع الثوار.

من جهته قال عامر عبدالمنعم الباحث والمحلل السيساسي أن خسارة حلب لا تعني خسارة المعركة، مضيفًا أن المعركة طويلة وممتدة.

ونوّه عبدالمنعم لـ"الفتح" بتجربة الاتحاد السوفيتي في  أفغانستان، التي استمرت لمدة عشر سنوات انتهت بخسارة فادحة للروس، وكذلك التجربة الأمريكية في فيتنام، التي استمرت 20 عامًا دمرت فيها المدن وحرقت القرى وقتل نحو نصف مليون فيتنامي، وفي النهاية خسرت أمريكا الحرب وخرجت من فيتنام.

وأكد المحلل السياسي أن الروس والأمريكيين في عدوانهم الحالي يعتمدون على الشيعة وعملاء الأكراد كقوات برية، مشيرًا أن هذه القوات المرتزقة لا تقاتل إلا بغطاء جوي أمريكي وروسي، وتفر من المعارك حال غياب الغطاء الجوي، منوهًا على أن الضربات الصاروخية والغارات الجوية لا يمكنها حسم معركة على الأرض.