فن الهدم

  • 362
أرشيفية


كنت أسير مع صديقتي يومًا، فرأينا والدها، فأشارت إليه ثم استدارت إليّ، وقالت: "هذا أبي"، فأومأت برأسي ثم سألتها ماذا يعمل؟، قالت إنه كان نحاتًا، ظننت لأول وهلة أن معنى الكلمة أنه يصنع التماثيل، ولكنها شرحت لي أن النحات يعني أنه يهدم البيوت أو الجدران التي تحتاج إلى الهدم.

قلت لها "وهل هذه صنعة؟ أي أحد يمكنه أن يهدم!"، قالت لي: كلا إن الهدم فن، وقالت إن أباها كان يهدم باحترافية، بحيث لا يصيبه أي أذى ويضعف البنيان بالطرق المتواصل أولًا، ثم يضرب الضربة القاصمة بحيث تكون الأخيرة، ولا يتأذى هو أو أي أحد، وينهدم البناء.
وظلت تشرح الأمر وأنا أفكر في أولئك الناس الذين يجيدون فن هدم الهمم وتكسير العزائم باحترافية شديدة بالنقد المتواصل والسخرية والعبارات القاسية، فكم من نحات محترف في مجتمعاتنا؟، ذكر الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم في كتابه "علو الهمة"، أن الشيخ سليم البخاري في بدايات طلبه كان قد ألّف رسالة في المنطق وعرضها على شيخه، فسخر منه، وقال له: أنت تكتب في المنطق وأنت من أنت!، وإمعانًا في الإهانة فقد ألقاها في التنور لتحترق أمام عينيه، وكانت تلك أول وآخر مؤلف للشيخ سليم البخاري على الرغم من أنه كان من أعلم أهل زمانه، لكن شيخه أجاد الهدم باحترافية، فلم يترك وراءه مصنفًا واحدًا يوثق علمه.
تذكرت قصة تروى "أن أحد الشعراء قدم من البادية إلى الخليفة ببغداد لينشده قصيدة، وصلى بالمسجد ثم تخير رجلًا صادف أنه كان شاعرًا، فقال له: "أريد أن أنشدك قصيدة قبل أن أعرضها على الخليفة"، وكانت قصيدة بليغة لفتت انتباه أحد الجلوس، وبعد أن فرغ قال له الشاعر: "ويحك أتدخل على الخلفاء بمثل هذا؟!
فقرر الرجوع، وعندما همّ بالخروج من المسجد منكسرًا ذليلًا ناداه رجل آخر، وقال له: "ما أراه إلا حسدك وإنك أوتيت فصاحة"، فتشجع وأنشدها للخليفة وأجزل له العطاء. 
وذكر الشيخ أيضا أنه في أحد المحافل الأدبية سُئل مجموعة من الكتاب المشهورين سؤالًا واحدًا: ماهو أكثر شيء أثر بك وأدى إلى نجاحك؟ وكانت أفضل إجابة لكاتبة كبيرة قالت: إنه "التشجيع"، وقالت: إنه وفي سني هذا وعلى الرغم من شهرتي ونجاحي فإن كلمة تشجيع تحفزني كثيرًا، وكلمة تثبيط تحبطني وترجعني خطوات للوراء.

فنداء للمربين محطمي الهمم والعزائم بسهام كلماتهم القاسية بدعوى الصراحة أو الخوف على النشء من مغبات الغرور أو النقد لأجل الإصلاح معلمين كانو أو مدراء أو مسئولين، تخيروا كلماتكم وتذكروا قول الله عز وجل: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} لا تلقوا الله بقتل الأمل، وتحطيم النفسيات، وتخيروا العبارات.
قد لا تعجبك  كلماتي فتقول إنها دون المستوى، وقد تقول إن لديكِ ماهو أفضل من ذلك، على الرغم من أن للعبارتين نفس المعنى إلا أن لكل منهما أثر متباين، الأولى تحطم أعظم موهبة، والثانية تصنع أعظم موهبة، فرفقًا بالنفوس.