وهم القمة

  • 205
صورة ارشيفية

حين تأسست جامعة الملك فؤاد، أو جامعة القاهرة عام 1908، بدأ مفهوم جديد لما يسمى بالتعليم العالي، وكان الاحتياج الأساسي لتلك الجامعات لتخريج معلمين للمدارس التي أنشأت حديثًا في طول مصر وعرضها، لذا كانت كليات المعلمين هي كليات القمة في ذلك العصر، وحلم البسطاء والمغتربين من قرى مصر وربوعها النازحين إلى القاهرة الكبرى؛ لتلقي التعليم العالي ثم الحصول على وظيفة حكومية براتب ممتاز لا يوفره وقتها العمل في الزراعة، ومن ثم يرسلُ هذا الشاب حين يعمل لأسرته ما يعينها على شظف الحياة، وبعد فترة ومع قيام ثورة 23 يونيو، تغيرت النظرة لكليات القمة، فكانت الحربية هي أقصى طموح ذلك المغترب، وصار لأبناء وخريجي تلك الكليات مزايا اجتماعية ومادية ونوادٍ خاصة بهم، وامتيازات تؤمن مستقبلًا أفضل لخريجيها.

 

ثم كان الاهتمام بكليات الحقوق، واعتبار خريجيها هم محظوظون؛ لكونهم يرتدون ثوب المحاماة الفخم ذو الهيبة، أو وكلاء نيابة، ومن ثم مستشارون وقضاة، ودار الدهر دورته، وتغيرت معطيات الحياة ومتطلبات سوق العمل، وفي كل عصر تبرز كليات وأقسام مهمة، وتوفر فرص عمل ممتازة لخريجيها مثل أقسام الحاسب الآلي والبترول واللغات وغيرها.


وارتفعت المجاميع بشكل جنوني، واحتدم السباق، وتوقفت حياة الطلاب وأهاليهم على كليات محددة، متصورين أنها كليات قمة، وتوقف الزمن عند أولئك الناس، وأصيبت طموحاتهم بالجمود، فإما الطب والهندسة أو البكاء والحزن والصدمة، واحتدم التنافس على الدروس والكورسات، بغض النظر عن المؤهلات والميول والقدرات، فصار الحال إلى أن لدينا أطباء ذوو أخطاء كارثية، ومهندسين يفتقرون للمهنية، وشهادات مفرغة من محتواها، وتغير سوق العمل ولم تتغير العقول، وظل الأمل الوهمي للقمة الزائفة ينادي الأبناء ويستنزف الآباء بلا رحمة، والأقدار مكتوبة، والأرزاق بيد الله والعصر اختلف ولكنهم لا يدركون أن التوفيق مناطه فقط أن تحب ما تعمل وأن تبدع في مجالك أيا كانت شهادتك.


فالمجتمع  بحاحة إلى التنوع والإثراء في كل المجالات، وفي حاجة أيضا لشخصيات سوية تقية تعرف ربها وتلتزم بدينها، وتتقن عملها وتبدع فيه، وتطور من ذاتها، فهذا هو النجاح الحقيقي، وإن وصلت إلى ذلك فقد وصلت فعلًا إلى القمة.