أكثر من مجرد لغة

  • 171
ارشيفية

أكبرُ من مجرَّدِ لغة

بقلم- أسماء مهني

كثيرًا ما نشتكي من صعوبةٍ في فهمِ آيِ القرآن وتدبُّرِ معانيه؛ نشكو من سهوٍ في الصلاة، وبُطءٍ في الامتثال لِأوامرِ الله، ما بالُنا تُتْلى علينا آيات الله فلا تقْشعرُّ منها جلودُنا، ولا تلينُ لها قلوبُنا!

في الحقيقة إن لهذه المشكلة أسبابًا عِدَّة؛ أحدُ أهمِّ أسبابِها: ضياعُ اللغة العربية واضمحلالُها من ألسنتِنا، من بيوتِنا، من مجالسِنا، وحتى من مدارسِنا.

إن اللغةَ العربيَّة هي اللغةُ التي اختارها اللهُ -عزَّ وجل- من بينِ لُغاتِ الأرضِ قاطبةً، وشرَّفها بأن أنزلَ بها القرآن {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}، ويسَّرَ –سُبحانه- ألفاظَهُ ومعانيهِ لمن حفظَهُ وتدبَّرَهُ فقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، وبطبيعةِ الحال فقد جاءت السنةُ المطهَّرَةُ مفسِّرَةً للقرآن باللغةِ العربية أيضًا فازدادت اللغةُ العربيةُ شرفًا على شرفِها، ونحنُ المساكين قد أضعْنا بجهلنا ما يُعينُنا على فهْمِ مُرادِ الله ومرادِ رسولِ الله بإضاعتنا للغة العربية، وفي هذا الصدَدِ يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيْمية -رحمهُ الله-: (إنَّ اللغةَ العربية من الدين، ومعرفتُها فرْضٌ واجب؛ فإن فهمَ الكتابِ والسنةِ فرضٌ ولا يُفهَمُ إلا بفهْمِ اللغةِ العربية، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا بهِ فهوَ واجب).

وقدْ أدركَ سلَفُنا الصالحُ قيمةَ هذهِ اللغة وقدَرُوها قدْرَها وعابوا مَن لَحَنَ فيها؛ فقد رُوِيَ أنَّ عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- مرَّ على قوْمٍ يرمون نَبْلاً فعابَ عليهم فقالَ أحدُهم: يا أميرَ المؤمنين "إنَّا قومٌ متعلِّمين" -والصحيح متعلمون- فقال: (لحْنُكُم أشدُّ عليَّ من سوءِ رَمْيِكُم، سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: (رَحِمَ اللهُ امرأً أصلحَ من لسانه)، وكان الإمامُ الشافعيُّ يتكلمُ عن البدع فسُئلَ عن كثرتِها فقال: (لِبُعْدِ الناسِ عن اللغةِ العربية)، وسمِع الأعمشُ رجلاً يلْحنُ في كلامِهِ فقال: (من الذي يتكلم، وقلبي منهُ يتألم)، وقد عَنِيَ السلَفُ عِنايةً كبيرةً بتعليمِ أبنائهم اللغةَ العربية حتى أنَّ ابنَ عمرَ -رضي الله عنه- كان يضربُ بَنيهِ على اللحن.

وعلى العكسِ اليوم فقد أصبحَ الشُغلُ الشاغلُ للآباءِ والأُمهات -إلا من رحم ربي- تعليمَ أولادِهم اللغاتَ الأجنبية والعلومَ الطبيعية لمُواكبةِ التقدُّمِ والتحضُّرِ –بزعْمِهِم- فنشَّؤوا بذٰلك جيلًا لا يعرفُ عن لغتِهِ إلا أنَّها ذات الألفاظِ المُعقَّدة والقواعدِ الصعبة؛ فقواعدٌ للإملاء، وقواعدٌ للنحو والصرف، وأخرى للبلاغة، وغيرُها للشعر والنثر، حتى وصلَ الحالُ بالطلَبةِ أن اعتبروها أصعبَ حتى من الفيزياءِ والكيمياءِ والأحياء!

يا لَجهلِ هٰؤلاء! إنهم حتى لم يروْا جمالَ هذهِ اللغة، ورقةَ ألفاظها، ولم يتذوَّقوا عذْبَ معانيها، ولم يغوصوا في بحرها ليستخرجوا منه الدُّرر، حقاً إنَّ خسارتَهم كبيرة!

ومع الأسفِ فإن اللغة لم تسْلم حتى من الناطقين بها على الفضائيات والشاشات وحتى على منابر المساجد -إلا من رحم ربي- فتجد في حديثِ أحدِهِم من اللحنِ ما لا يعلمُهُ إلا الله، وتجدُه يقلِبُ الضمةَ فتحةً والعكس، ولا يدري أنَّهُ بذٰلك قد صيَّرَ الفاعلَ مفعولًا بهِ والمفعولَ به فاعلًا، فقلبَ الموازين، ولوَّثَ الأسماعَ بأحدِ أبشعِ وسائلِ التلوُّثِ السمعيِّ؛ وهو اللحنُ في اللغة! إنَّ الأمرَ أكبرُ من مجرَّدِ لغة... فاللغةُ إشارةٌ إلى هويةِ الأمة وشخصيَّتِها ومكانتِها؛ فقد كانت اللغةُ العربيةُ قويةً بقوةِ ناطقيها، والآن هي ضعيفةٌ بضعْفِنا، ونحنُ ضعفاءُ بإضعافِنا لها، يقولُ الرافعيُّ: (ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلا ذَل، ولا انحطت إلا كان أمرُهُ في ذهابٍ وإدبار). إن اللغةَ العربية محفوظةٌ بحفظِ اللهِ للقرآن، شئنا أم أبيْنا، حفِظنا أو ضيَّعْنا؛ ولكنَّنا نأملُ أن يستعملَنا اللهُ لحفظِها وإعادةِ مكانتِها ومنزِلتِها الرفيعة كما هو لائقٌ بها.

أئمةَ اللغةِ الفُصْحى وقادتَها *** ألا بِدارًا فإنَّ الوقتَ كالذهبِ

رُدُّوا إلى لغةِ القرآنِ رَوْنَقَها *** هيا إلى نصرها فى جحفلٍ لَّجِبِ