أنا أنت

  • 161

لما أسلم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى المدينة قبل هجرة رسول الله؛ خرج أبو جهل وأخوه الحارث وكانا أخوي عياش لأمه فنزلا بعياش، وقالا له: إن محمدًا يأمر ببر الوالدين؛ وقد تركت أمك، وأقسمت أن لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتًا حتى تراك، وهي أشد حبًّا لك منها لنا، فاخرج معنا.

قال ابن هشام: خرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة ورسول الله صلى عليه وسلم بمكة فكلماه وقال: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها فقلت له: يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت قال: فقال: أبر قسم أمي ولي هنالك مال فآخذه. قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا فلك نصف مالي ولا تذهب معهم. قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما فلما أبى إلا ذلك قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليه معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا ابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه وربطاه؛ ثم دخلا به مكة نهارا موثقا، ثم قالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.

- تظهر روعة عمر رضي الله عنه وحسه الأمني الرفيع، حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف، وانظر الى السمو العظيم الذي كان يتمتع به عمر . حاول إعطاء نصف ماله لأخيه عياش، على أن لا يغادر المدينة ، وأعطاه ناقته ليفر بها ، ومع هذا كله ، لم يشمت بأخيه ، ولم يشتف منه؛ لأنه خالفه ورفض نصيحته ، وألقى برأيه خلف ظهره ، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه.

ومن عجب إِني أَحنُ إِليهم
وأَسألُ ، شوقاً ، عنهُم وهم معي
وتبكي عيني وهم في سوادها
ويشكو النوى قلبي وهم بين أَضلعي

- الأمة تحتاج أن تقرأ سيرة الأصحاب رضي الله عنهم؛ قراءةً واعية بدلاً عن قراءة السّباب والقذف وإلقاء التهم الذي نراه بالفيس بوك.
قال الشافعي رحمه الله :
لِسَانَكَ لا تَذْكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ ** فَكلُّكَ عَـوْرَاتٌ وَلِلنَّـاسِ أَلْسُــنُ
وَعَـينكَ إنْ أَبْـدَتْ إَلَيكَ مَعَـايِباً ** فَصُنْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْينُ

فإن المسلم مأمور بأن يحسن الظن بإخوانه، وأن يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على محمل حسن؛ ما لم يتحول الظن إلى يقين جازم، فالله عز وجل أمرنا بالتثبت فيما يصدر من الغير نحونا ونحو إخواننا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فكم أوقع سوء الظن من فراق بين المتحابين، وقطيعة بين المتواصلين، ولو لم يكن الظن على درجة عظيمة من الخطورة والأهمية في إضعاف روح الموالاة بين المؤمنين؛ لما أكد الباري عز وجل على ذلك في الكتاب والسنة.

عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ " قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا أَدْرِي، أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ، أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ.
أخرجه البُخاري في الأدب المفرد، ومسلم واللفظ له.