وانتصر الوهم!

  • 140

منذ أيام فقط أعلن "طاهر القادري" زعيم حركة "عوام باكستان" -وهي حركة صوفية باكستانية- إنهاء الإعتصام الذي سُمِّي بــ"الثورة" لإسقاط النظام، ورغم أنّ النظام لم يسقط -وبغض النظر عن منهج الحركة ومُمالئتها للشيعة في باكستان- إلا أن طاهر القادري خطب في الآلاف من أتباعه وهو يصرفهم عن الاعتصام الذي استمر سبعين يوماً قائلاً "قدّمتم لباكستان بتضحياتكم وصبركم أعظم ثورة في تاريخها ويكفيكم فخراً ونجاحاً أنكم أوجدتم شعوراً ثورياً في نفوس أفراد الشعب"، ودعاهم لفض الاعتصام والعودة بعد شهرين لأنهم "انتصروا" وشهر مُحرم سيبدأ ويجب أن يتفرّغوا فيه للعبادة، بمعنى أنهم قضوا عشر ذي الحجة في الاعتصام بلا تعبُّد ولكن سيتعبّدون في مُحرّم!!!، ورغم ذلك الآلاف من مؤيديه تغمرهم السعادة بهذا "النصر المؤزَر" الذي لم يتحقق شيءٌ على الإطلاق من مطالبه لكن فقط لأن الزعيم قال أنه "نصر عظيم"، وإنا لله وإنا اليه راجعون على هذه العقول!!
* للاطلاع: مقطع من خطبة القادري.

قد تسخر من هؤلاء فالأمر بالفعل يدفع للسُخرية، لكن المشكلة أن المسلمين -وليس الإسلاميين فقط- خلال المائتي سنة الماضية أدمن كثير من قياداتهم هذا "الاستهبال" أمام المؤيدين السُذّج لتفادي السؤال عن مَن الفاشل، فيتم توجيه الجموع إلى الإيمان بأن ما تحقق نصرٌ مؤزّر حتى يُحوِّل القادة فشلهم إلى انجاز.
قد يكون هذا المثال مُرضِياً لك ومُقنعاً نظراً لخلفيتك السابقة عن الفكر الصوفي "الدرويش"، لكن متى طال مثالٌ آخر طرفاً تُقدِّره فربما تنتفض مُدافعاً قبل أن تُمعِن النظر، لكن لا محالة مِن ذكر مثالين غير صوفيين لبيان ذلك وهو واجب النُصح وإن أغضبك.

2-
في مثل هذا اليوم بالتحديد منذ شهرين "26 أغسطس 2014" وقّعت حركة حماس على اتفاق يقضي بوقف إطلاق النار مع اليهود ويتضمن الاتفاق مجموعة من البنود المكتوبة واعتبرت الاتفاق نصراً مؤزّراً، وقبل هذا التاريخ بــ ثلاثة وأربعين يوماً "14 يوليو 2014" رفضت الحركة نفس البنود المكتوبة واعتبرتها إجحافاً وخيانة رغم أن الفارق طفيف للغاية بين الحالتين..
* منعاً للتكرار تجد الفارق بين المبادرتين وكذلك استشراف لبعض التوقعات بشكل تفصيلي هنا، وتجد نص المبادرتين هنا و هنا.

بعد الإعلان عن "الانتصار" انطلقت الأفراح والكرنفالات بالانتصار ليس في غزة وحدها وإنما أقامت الجبهة الإسلامية في الأردن كرنفالاً آخر، وكذلك الحركات الإسلامية في كلٍ من ماليزيا والمغرب وربما هناك دول أخرى لم أرها.
صحيح أنّ رجال المقاومة -جزاهم الله خيراً- حققوا تقدماً كبيراً في السلاح بالنظر إلى محدودية الإمكانات وبغض النظر عن ما إذا كان يتم تصنيعه كله محلياً أو يُستَورَد بعضه، كما أن المقاومة قدّمت تضحيات كبيرة ولا يجب التشكيك في ذلك -تُضطر دائماً لتقرير هذه البدهيات دفعاً للمُتربصين المؤدلجين مُسبقاً وهو أمرٌ سخيف ويزيد من حجم المقال بالمزيد من الإطناب لكن لا مشكلة- لكن هذا لا يعني أن ليس هناك من أخفق في قراءة المشهد في المبادرة الأولى عندما يوافق عليها في المرة الثانية بعد أن وصل القتلى عشرة أضعاف، وهذا أمرٌ وارد، لكن لا يجب الاستخفاف باعتباره نصراً في المبادرة الثانية وإجحافاً في الأولى.
أُشيع وقتها -لإشعار الناس بوجود فارق كبير بين المبادرتين- أن البنود المكتوبة ليست وحدها، وإنما هناك بنود غير مُعلَنة كــ "رفع الحصار كلياً وليس فقط الإشارة إلى فتح المعابر - المطار - الميناء - الإفراج عن الأسرى المُحررين سابقاً قبل توقيع الاتفاق وليس في صفقة تبادل ...." على أن يتم الاتفاق عليها بعد شهر من خلال التفاوض، ثم بعد أيام أعلن النظام المصري أن المدة التي سيبدأ بعدها التفاوض شهران "أي أن بدء المفاوضات كان يجب أن يكون اليوم 26 أكتوبر 2014" ورغم ذلك أُعلن اليوم عن تأجيل جديد، فضلاً عن أنها حتى لو أُجريت فواهِم مَن يتصوَّر أن البنود التي صُدِّرت للناس ستتحقق في ظل الأوضاع الحالية، حتى أن معبر رفع -وهو أقل المطالب- لم يُحسَم أمره بعد ولم يتغير حاله كثيراً.
* الرابط هنا منذ شهرين فيه استفاضة أكثر في هذه الجزئية منعاً للتكرار.
ولا أرى جدوى من وضع مجموعة من روابط الكرنفالات بعد "الانتصار" لأنها تحتوي آيات قرآنية تحثُّ على الجهاد وأناشيد حماسية، وبالتالي فتلاوتها أو إنشادها بالنسبة لبعض المُتحفِّزين يجعله يظن أنها حدثت بالفعل في الحرب الأخيرة فينبهر بـ"الانتصار الخطابي والأناشيدي"!!!

3-
بعد الهزيمة المُنكَرة للجيش المصري في حرب 1967 واحتلال سيناء أشاع النظام المصري الناصري انه انتصر في الحرب، فرغم ضياع سيناء إلا أن اليهود كانوا يُخططون للقضاء على النظام "ناصر ورفاقه" وهو ما لم يحدث إذا مصر انتصرت .... هكذا كانوا يروجون، النظام باقٍ إذا البلاد بخير ولو ضاعت كلها ووجدوا مَن يُصدق ذلك!!.
نفس الاستراتيجية دائماً ما تُستخدم حال الفشل، ببساطة ; العدو مهما فعل بنا إلا أنه لم يُحقق كل طموحه فينا إذا نحن انتصرنا!!.

في الأمثلة الثلاثة السابقة يبقى العامل المشترك هو ملل الجماهير أو يأسهم من وجود حل وبالتالي يتوفر استعداد نفسي مناسب للقادة للخروج من المأزق، يقولون باختصار; سنخرج خاسرين وسنقول أننا انتصرنا وسيفرح المؤيدون لأنهم سئموا هذا الحال أكثر منا.

أتمنى أن لا نُفاجأ يوماً ما بمن يقول أنه أجرى مُصالحة من نوعٍ ما في مصر يحصل بموجبها على أقل القليل بعد قتل آلاف واعتقال عشرات الآلاف بلا مُقابل يُذكر ثم يخرج ليقول أنه انتصر فيُهلل له اليائسون!!!.

نفذ مُصالحة كما تشاء، لكن رجاء لا تُردد بعد كل ماحدث خلال 16 شهراً أنها "انتصار" ليُكافئك الناس على "حكمتك"!! ..... استح.

يمكن أن يفشل الإنسان أو المنظومة في أمرٍ ما، لكن من المُخجِل أن يستغل يأس الناس ووقوعهم في حرج الاعتراف بالفشل ليُعلِن لهم النصر ويهرُب من المُحاسبة برغبتهم.