جمالُ الأدبِ وأدبُ الجمالِ : اللافتةُ الثانيةُ ( 2 )

  • 145

مَاهِيَّةُ الْجَمَالِ

إنَّ الجمالَ قيمةٌ أصيلةٌ وحقيقةٌ ثابتةٌ تعلو المنفعةَ واللذَّةّ ، وتتشكَّلُ مادياً ومعنوياً من خلالِ التأثيراتِ الحسِّيةِ والروحيةِ ، والموجاتِ الظاهرةِ والباطنةِ ، والانعكاساتِ المؤثرةِ والموحيةِ ، فأثرُه يخالطُ العقلَ والقلبَ ، ويناجى الروحَ والنفسَ ، ومن ثمَّ تكونُ ردودُ الأفعالِ المتباينةُ ، الجليةُ والخفيةُ ، والداخليةُ والخارجيةُ ، ما تحققُ السعادةَ والمتعةَ من جانبٍ ، وما ينبثقُ عنها من المنفعةِ واليقينِ من جانبٍ آخر، وتتجلَّى قيمةُ الجمالِ فى ردِّ فعلِ الفردِ وقولِه ، وفيما يحتدمُ داخلَه من انفعالاتٍ ومشاعرَ ، والجمالُ بداهةً –بلا شكٍّ - موجاتٌ من المظاهرِ الحسيةِ وغيرِها.

إنَّ التأملَ للجمالِ مدخلٌ إلى ارتقاءِ الروحِ وتنميةِ الذوقِ ، وسموِ النفسِ ، وهو دعوةٌ للتأملِ والتدبرِ، والتفكيرِ والتفكرِ ، وهو سببٌ من أسبابِ الإيمانِ ، وعنصرٌ من عناصرِه، يقوِّيه ويزيدُه، والقارئُ لتعاليمِ الإسلامِ والمتأمِّلُ فى تصويرِ القرآنِ يجدُهما مظهراً من مظاهرِ الجمالِ ، فى أحسنِ صورةٍ وأبهى منظرٍ وأجملِ ديباجةٍ وأليقِ عبارةٍ وأنقى معنى ، وإن كانتْ قيمةُ الجمالِ وجوهرُه معلومةً ومحسوسةً هكذا فعلينا أن نتفهَّمَ هذه القيمةَ ونتجمَّلَها فى حياتِنا وعملِنا، وقولِنا وفعلِنا، وفهمِنا وتطبيقِنا، وأن نتوارثَها عبرَ أجيالِنا حتى تعودَ حياتُنا حدائقَ ذاتَ بهجةٍ ، نلتذُّ بها ولا نفارقُ السرورَ فيها. وللهِ درُّ الشاعرِ حيثُ قالَ :

أيّهذا الشّاكى وما بك داءٌ ..... كنْ جميلاً ترَ الوجودَ جميلاً


ومن يرى أنَّ الدينَ يبحثُ عن الحقيقةِ ، وأنَّ الفنَّ يبحثُ عن الجمالِ ، أظنُّ أنَّ رأيَه يحتاجُ إعادةَ نظرٍ وإعمالَ فكرٍ ، أليسَ فى الحقيقةِ التى يقصدُها الدينُ جمالٌ خالصٌ ؟! أليسَ الجمالُ مزيجَ صورةٍ حسّيةٍ أو انفعاليةٍ ؟ ثمَّ ألا يبحثُ الفنُّ فى مضمونِه عن إبرازِ الحقيقةِ؟ فالعملُ المسرحىُّ – مثلاً - ما هو إلاَّ تصويرٌ للصراعِ بينِ الخيرِ والشرِّ ، أو بينَ الفضيلةِ والرذيلةِ ، وإنَّ المأساةَ تعكسُ هموماً إنسانيةُ ، وتشيرُ إلى حقيقةٍ واقعيةٍ ، والقصةُ والشعرُ يفعلان الشىءَ نفسَه بأسلوبٍ مغايرٍ ، ومن ثمَّ فألوانُ الأدبِ المختلفةُ قد تبلورُ حقيقةً نفسيةً ، وتجسدُ واقعاً اجتماعياً، وتبرزُ قيمةً خلقيةً ، ومجالاتُ الأدبِ ترتبطُ بالحياةِ وتتصلُ بالحقيقةِ والخيالِ ، فتأتى فى ثوبٍ قشيبٍ ، ومبنى جميلٍ ، ومعنى عظيمٍ ؛ لأنَّ تغليفَ الحقيقةِ فى إطارٍ جميلٍ ومؤثرٍ لا ينفى عنها كونها حقيقةً ، والأدبُ شكلٌ جميلٌ يتضمنُ حقيقةً ، تختلفُ صورُها لغةً وتعبيراً عن لغتِها فى العلومِ العلميةِ البحتةِ ، والفلسفيةِ المنطقيةِ.

ولا شكَّ أنَّ اقتصارَ الفنِّ على دورِ البحثِ عن الجمالِ وحدَه ، تعطيلٌ لوظيفتِه ؛ فالجمالُ فى الفنِّ مطلوبٌ لذاتِه ، ولكن فاعليتُه تقوى إذا ما ارتبطتْ بحقيقةِ ماهيتِه ، ومن المعلومِ أنَّ صورَ الجمالِ لا تُحصى ، وآفاقَ الحقيقةِ لا تحدُّها حدودٌ ، والمبدعُ يستطيعُ أن ينطلقَ –دونَ عائقٍ- فى فضاءِ الحقِّ والجمالِ ، وإذا كانَ الأدبُ أساساُ هو التعبيرُ اللغوىُّ الجميلُ ، فإنَّ الفكرةَ والمضمونَ عمادُه، ولهما جمالُهما، فالعملُ الأدبىُّ كلٌّ لا يتجزَّأُ ، والجمالُ ينسحبُ على الشكلِ والمضمونِ معاً ، وللهِ دَرُّ الشاعرِ حيثُ قالَ :

وإنَّ أشعرَ بيتٍ أنتَ قائلُهُ .... بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتَه صدقاً


والمنفعةُ في العملِ الأدبىِّ لا تتنافى مع القيمةِ الجماليةِ ، بل ترتبطُ بها ارتباطاً وثيقاً ، وذلك من خلالِ قدرةِ الكاتبِ وبراعةِ أدائِه وتوظيفِ أدواتِه وإمكاناتِه، وقد استطاعَ كُتّابٌ أفذاذٌ الجمعَ بينَ المنفعةِ والقيمةِ الجماليةِ ، فأبدعوا أدباً جميلاً ، وقولاً بديعاً ، وللحديثِ لفتةٌ ثالثةٌ مع الجماليةِ ومفهومُ الأدبِ الإسلامىُّ .


د / بيومي محمَّد بيومي
مدرِّسُ الأدبِ العربي
كليةُ دارِ العلومِ – جامعةُ الفيومِ