صفحات مطوية من القضية الفلسطينية قبل دولة إسرائيل (18)

  • 251

(كفاح الشعب الفلسطيني في النصف الأول من الثلاثينيات)

شهدت فترة الثلاثينيات تطورا جديدا في نظرة الفلسطينيين ، إذ لم تعد ثورتهم موجهة ضد اليهود فقط بل وضد بريطانيا  أيضا . فقد ترسخ في اعتقاد الفلسطينيين أن هناك تحالفا وثيقا بين بريطانيا والحركة الصهيونية ، و تنبه الفلسطينيون إلى أن وضع اليهود وتزايد هجرتهم وتكريس بريطانيا جهودها وإمكانياتها لخدمتهم سيجعل فكرة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين أمرا ممكنا  بل هو قابل الحدوث إذا استمرت الأمور على ما هي عليه . وكانت الهجرة اليهودية قد قلت بشكل ملحوظ أواخر العشرينيات ، إذ لم يهاجر إلى فلسطين عام 1928م إلا  2178 يهوديا ، لكن هذه الهجرة شهدت زيادة مفاجئة في أوائل الثلاثينيات عما كانت عليه ، خاصة مع صعود النازية في ألمانيا ووصولها للحكم عام 1933م ، إذ وصل عدد المهاجرين عام 1934م إلى 42359 يهوديا ، وفي عام 1935 إلى 61854 يهوديا . كما  زاد تملكهم للأراضي الفلسطينية بتشجيع من سلطة الاحتلال البريطانية . فبات واضحا رعاية بريطانيا للمشروع الصهيوني .

وعلى ذلك :
- عقد مؤتمر عربي في مدينة (يافا) في مارس 1933م ، تقرر فيه عدم التعاون مع الإنجليز .
- وفي أكتوبر 1933م هبت ثورة شعبية  بدأت من القدس ، وامتدت إلى غيرها  من المدن ، وقد جرح فيها الشيخ موسى كاظم الحسيني ، رئيس اللجنة التنفيذية الفلسطينية ، وبعض أعضاء اللجنة ، واستشهد فيها  عشرات من الفلسطينيين .
- وفي سنة 1934م ضبط عمال ميناء يافا من العرب شحنة أسلحة ومتفجرات مهربة لليهود ضمن حمولة أسمنت على أحدى البواخر ، فتسبب انتشار خبر ضبطها في إضراب عمال الميناء ، وبالتالي توقف حركة الشحن والتفريغ لسائر البواخر في الميناء ، فأوعزت بريطانيا إلى اليهود إنشاء ميناء خاص لليهود في تل أبيب لتيسير عمليات تهريب السلاح لليهود بعيدا عن المراقبة . 
- وبين عامي 1934م و1935م ظهرت أحزاب سياسية فلسطينية  ، فبالإضافة إلى حزب (الاستقلال) ظهر حزب (الدفاع ) ، و الحزب  العربي  الفلسطيني  ،  و حزب   (الإصلاح)  ، وحزب (الكتلة الوطنية ) . وقد أعقب ذلك تشكيل لجان وطنية في المدن والقرى ، وهي التي أصبحت القاعدة التنظيمية لثورة 1936م الكبرى بعد ذلك . وفي أبريل 1936م التقى زعماء الأحزاب الفلسطينية الخمسة وشكلوا ( اللجنة العربية العليا ) ، التي أسندت رئاستها إلى الحاج أمين الحسيني ، والتي ارتبطت  به ثورة 1936م  .

وقد قامت الحكومة البريطانية لتهدئة الأوضاع باقتراح تشكيل مجلس تمثيلي في فلسطين ، وذلك في ديسمبر 1935م ، يضم 28 عضوا  نصفهم من العرب والنصف الآخر من اليهود ، مع أن العرب كانوا يشكلون وقتها 70%من سكان فلسطين . وقد دفع اليأس الفلسطينيين إلى قبول هذا الاقتراح ، ولكن  ما إن بدأت مناقشة الاقتراح في مجلس العموم البريطاني حتى شنت عليه الدوائر الصهيونية هجوما عنيفا بزعم أنه  يعيق  إقامة  الدولة اليهودية ، و يتعارض مع تعهدات بريطانيا لليهود .، فسحبت الحكومة البريطانية المشروع ، وأدرك الفلسطينيون أن لا شيء أمامهم  إلا  الانتفاضة  الشعبية ، فكانت ثورتهم الكبرى عام 1936م  .

وقد سبق ظهور هذه الثورة الشعبية صورة من صور الكفاح الفلسطيني المسلح المتمثل في المنظمة السرية للشيخ عز الدين  القسام ، الذي تولى عام 1928م قيادة ( الشبيبة المسلمة) التابعة للمجلس الإسلامي  الأعلى في فلسطين ، وراح ينتقل بين القرى في شمال فلسطين داعيا إلى المواجهة الحاسمة مع اليهود والإنجليز في وقت واحد ، وبث روح الجهاد في النفوس ، وألف منظمة سرية تضم مسلحين في يافا . وقد طلب الشيخ عز الدين  القسام  من الحاج أمين الحسيني إطلاق  الثورة في جنوب فلسطين لتزامن إطلاق الثورة التي أطلقها في الشمال ، ولكن القيادة السياسية الفلسطينية كانت لا تزال تطمع في الحل السياسي . فلما سحبت بريطانيا مشروع المجلس التمثيلي تساقطت الآمال حول الحل السياسي .
وقد أطلقت المجموعات المسلحة التي نظمها الشيخ عز الدين القسام  انتفاضتها  في خريف 1935م . وقد سقط الشيخ القسام مع مجموعة من رفاقه وهم ينفذون عملية فدائية في نوفمبر 1935م ، بعد أن حوصروا  ورفضوا الاستسلام ، وصار استشهاده رحمه الله رمزا للفداء الفلسطيني .

** الشيخ عز الدين القسام :
هو الشيخ محمد عز الدين عبد القادر القسام  ، من مواليد بلدة جبلة من قضاء اللاذقية في سوريا عام 1871م . درس بالجامع الكبير في جبلة . جاهد الفرنسيين الذين احتلوا سوريا ولبنان إلى جانب عمر البيطار . انتقل إلى فلسطين حيث استقر في ضاحية الباجور قرب حيفا ، حيث تنبه للنشاط اليهودي في فلسطين ، واستطاع من خلال عمله بالتدريس في المدرسة الإسلامية ، ومن خلال التحاقه بجمعية الشبان المسلمين في حيفا ، التي انضم إليها ثم انتخب رئيسا لها عام 1928م ، ومن خلال عمله كخطيب و كمأذون شرعي ، أن يعمق الوازع الديني في نفوس الناس ، ويربيهم تربية إسلامية ، ويوعيهم بمخاطر الهجرة اليهودية  وبيع الأراضي لليهود ، كما نبههم إلى مؤامرات حكومة الانتداب البريطاني . ومن ثم عكف على تكوين قاعدة من المناضلين ، والإعداد للثورة سرا  .
 واستمر في جهاده هذا حتى عام 1935م حيث تنبهت السلطات البريطانية لنشاطه فقامت بمراقبته ، ووقعت المواجهة بينه وبين السلطة البريطانية ، والتي انتهت باستشهاده واثنين من رفاقه بعد معركة باسلة ، وكان لاستشهاده وقع أليم وحزين في جميع أنحاء فلسطين .