"وخالق الناس بخلق حسن"!!

  • 232

هذا جزءٌ من حديثٍ رواه الإمامُ أحمدُ - رحمه اللهُ - والترمذىُّ وحسَّنه ، بيَّن فيه النبىُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقَّيْن:
حقَّ الله - تعالى - : " اتقِ الله حيثما كنتَ وأتبع السيئة الحسنة تمحها " ، وحقَّ الناسِ : " وخالق الناس بخلق حسن "  أي : معاملتهم بالأخلاق الحسنة الطيبة التى جاء بها الإسلام من الصدق والعفو والقول الحسن وبَذل الخير واحتمال الأذى والوجه الطلق ، وترك الأخلاق المذمومة من الغش والغدر والخيانة والغيبة والنميمة وغيرها كما قال - صلَّى الله عليه وسلم - : " مَن أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويدخل الجنة  فلتأته منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأتِ إلى الناس الذى يُحبُّ أن يؤتَى إليه ". رواه مسلم.

وقال- صلَّى الله عليه وسلَّم - : " أدِّ الأمانة لمَن ائتمنك ولا تخن مَن خانك " ، وقال : " إنَّ الله يبغض الفاحش البذىء ".
وقال : " لا يصلح في ديننا الغدر " .


- وبهذه الأخلاق الحسنة فُتحت القلوب فى شرق آسيا ووسط أفريقيا وجنوبها ، وما زالت تُفتَح فى أمريكا والغرب ؛ لأنَّ النفوس جُبلتْ على حبِّ من أحسن إليها .

- وما زالت هذه النماذج الطيبة الملتزمة بالإسلام حقاً وبأخلاقه وآدابه السامية يفتح الله بها قلوب مَن شاء من عباده ، فالتاجر الصدوق أينما حلَّ يعامل أهلها بالصدق والأمانة فيُبهرهم بعد أن تآلفهم بما يفتقدونه من هذه الأخلاق ، فيسألونه مَن هو؟ وما دينُه ؟ ، وهكذا ينتشر دين الله - عزَّ وجلَّ - والحمد لله  .

 - وهناك نماذج سيِّئة تصدُّ عن سبيل الله بأخلاقها السيئة من الغش فى المعاملة وأكل أموال الناس بالباطل فيقول الناس : لو كان دينُه حقاً ما غشَّنا ، ولا أكلَ أموالنا ؛ فكان سبباً لصدِّه عن دين  الله الحقِّ، قال الله – تعالى – مُحذِّراً : " ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم " النحل:94.
 .قال ابن زيد فى قوله : " تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ " ( النحل: 92  ) يغر بها ، يعطيه العهد ، يؤمنه وينزله من مأمنه ، فتزل قدمه وهو فى مأمن ، ثم يعود يريد الغدر ، و "  دَخَلاً بَيْنَكُمْ " ، قال قتادة : خيانة وغدراً  .
قال ابن كثير: ( لأنَّ الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده ، ثمَّ غدر به لم يبقَ له وثوقٌ بالدين ؛ فانصدَّ بسببه عن الدخول فى الإسلام )

-وهل يمكن أن يحدث تمكين لقوم سيئى الأخلاق؟! ، والجواب قوله تعالى - : " إنَّ الأرض لله يورثها مَن يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" ، وقوله – تعالى - : " إنَّما وليُّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومَن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنَّ حزب الله هم الغالبون"  .
ومَن نظر فى هلاك الأمم الخالية التي كان لها الصولة والجولة يرى أنَّها هلكَتْ لمَّا ضاعت أخلاقها ، فمَن أراد تمكيناً فعليه بتحقيق شرط الإيمان والعمل الصالح كما قال – تعالى - : "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم" ، ومن العمل الصالح الأخلاق الطيبة التى مدح الله – تعالى - بها رسوله بقوله : " وإنَّك لعلى خلق عظيم "  .
وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (أنا زعيم ببيت فى ربَض الجنة لمَن ترك المِراء وإن كان مُحقَّا ، وببيت فى وسط الجنة لمَن ترك الكذب وإن كان مازحاً ، وببيت فى أعلى الجنة لمَن حسَّن خلُقَه) رواه أبو داود ، وحسَّنه الألبانىُّ .
وقال : [ ما من شىءٍ أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإنَّ الله يبغض الفاحش البذىء ] رواه الترمذىُّ وقال :  حديث صحيح ، " إنَّ من أحبكم إلىَّ ، و أقربكم منِّى مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ، و إنَّ أبغضكم إلىَّ و أبعدكم منِّى مجلساً يوم القيامة الثرثارون ، و المتشدقون ، و المتفيهقون ، قالوا : قد علمنا " الثرثارون و المتشدقون " فما " المتفيهقون ؟ " قال : المتكبرون ".  إسناده حسن – السلسلة الصحيحة.
- وللأسف آفةُ هذا الوقت خوض اللسان فى عرض الناس بدون حق أو ضوابط ، مع أنَّ الله – عزَّ وجلَّ – يقول : " ما يلفظ من قول إلاَّ لديه رقيب عتيد " .
وقال- صلَّى الله عليه وسلَّم - لمعاذ - رضى الله عنه - : " وهل يكبُّ الناس على مناخرهم فى النار إلاَّ حصائد ألسنتهم "
- ومن حصاد اللسان المر الذى صار فاكهةً فى ألسنة الكثير اليوم الغيبة والنميمة ورمى الناس بالباطل ، وقد أخبر - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه رأى ليلة الإسراء والمعراج أقواماً لهم أظفار من نحاس يخمشون بها صدورهم فسأل عنهم جبريل فقال: " هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون فى أعراضهم " .
وهذا يدل على أنَّها من الكبائر ، وروى الطبرانىُّ بإسنادٍ جيد عن أبى الدرداء - رضى الله عنه - عن النبىِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال : " مَن ذكر امرأ بشىء ليس فيه ؛ ليعيبه به حبسه الله فى نار جهنم حتى يأتى بنفاذ ما قال فيه " ، والواجب على المسلم إذا سمع غيبة أخيه أن يرده لقوله – صلَّى الله عليه وسلم - : " مَن ذبَّ عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يعتقه من النار ". رواه أحمد وسنده حسن
 
- وواجب على المسلم ألاَّ يخشى فى الحق لومة لائم ، وأن يجعل رضا الله نصب عينيه ، وأن يحذر إرضاءهم بمعصية الله أو مداهنة أحد من خلق الله من أجل دنيا أو جاه!.
وأن يقول الحق بدليله متحلياً بأخلاقِ وآداب الإسلام ، ولا يغضب لنفسه ، وإنَّما لله ، وهذا يتطلَّب منك أن تتصدق بعرضك على الناس ؛ فلا تبالِ بمَن مدحك أو ذمَّك كما تصدَّق أبو ضمضم - رضى الله عنه - الذى قال عنه النبىُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ‏ :‏ ‏" ‏ألا تحبون أن تكونوا كأبى ضمضم‏ "‏ ؟ قالوا‏ :‏ يا رسول الله ، ومَن أَبو ضمضم؟ قال‏ :‏ ‏"‏ إِنَّ أَبا ضمضَم كَانَ إِذَا أصبَحَ قَالَ‏:‏ ‏"‏اللهم إنِّى قد تصدقت بعرضى على مَن ظلمني"‏‏.‏أَخرجه أَبو عمر‏.‏

- ولنا فى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – خير أسوة فى هذا ؛ فقد كان يُؤذى فيقول : " رحم الله أخى موسى، لقد أُوذى بأكثر من هذا فصبر" .
وكذا هو دأب العلماء العاملين - رحمهم الله - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية  - رحمه الله - الذى كان لا يبالى بأحد فى الحق ، وبسبب ذلك اُبتُلى واُمتُحن مرات ، ومن كرم أخلاقه وطيب معدنه أنَّه جعل كلَّ مَن آذاه فى حلٍّ إلاَّ مَن كان عدواً لله ورسوله ، فبعد خروجه من محبسِه بالقاهرة وقد مكث فيه ثمانية عشرَ شهراً كتب رسالة إلى أهل دمشق ، جاء فيها : 
" فتعلمون - رضى الله عنكم - أنِّى لا أُحب أن يُؤذى أحد من عموم المسلمين فضلاً عن أصحابنا بشىء أصلاً لا باطناً ولا ظاهراً ولا عندى عتبٌ على أحد منهم ولا لوم أصلاً ، بل لهم عندى من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان ، كلٌّ بحسبه ولا يخلو لرجل إمَّا أن يكون مجتهداً مصيباً أو مخطئاً أو مذنباً ؛ فالأول مأجور مشكور ، والثانى مع أجره على الاجتهاد فمعفوٌ عنه مغفورٌ له ، والثالث فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين ، وتعلمون - رضى الله عنكم - أنَّ ما دون هذه القضية من الحوادث يقع فيها من اجتهاد الآراء واختلاف الأهواء وتنوع أحوال أهل الإيمان وما لا بدَّ منه من نزغات الشيطان ما لا يُتصوَّر أن يعرَّى عنه نوع الإنسان ، وقد قال – تعالى - : " وحملها الإنسان إنَّه كان ظلوماً جهولاً ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً " ، بل أنا أقول : ما هو أبلغ من ذلك تنبيهاً بالأدنى على الأعلى وبالأقصى على الأدنى فأقول :
تعلمون كثرة ما وقع فى هذه القضية من الأكاذيب المفتراة والأغاليط المظنونة والأهواء الفاسدة وأن ذلك أمر يجل عن الوصف ، وكلُّ ما قيل من كذبٍ وزور فهو فى حقنا خيرٌ ونعمةٌ ، قال – تعالى - : " إنَّ الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرىءٍ منهم ما اكتسب من الإثم والذى تولَّى كبره منهم له عذاب عظيم " .

وقد أظهر الله من نور الحق وبرهانه ما رد به إفك الكاذب وبهتانه ، فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه على أو ظلمه وعدوانه فإنِّى قد أحللْت كل مسلم ، وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبُّه لنفسى ، والذين كذبوا وظلموا فهم فى حلٍّ من جهتى ، وأمَّا ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم وإلاَّ فحكم الله نافذٌ فيهم ، فلو كان الرجل مشكوراً على سوء عمله لكنت أشكر كلَّ مَن كان سبباً فى هذه القضية لما يترتَّبُ عليه من خير الدنيا والآخرة لكنَّ اللهَ هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التى لا يقضى للمؤمن قضاءً إلاَّ كان خيراً له ، وأهل القصد الصالح يُشكرون على قصدهم ، وأهل العمل الصالح يُشكرون على عملهم ، وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم ، وأنتم تعلمون هذا من خلقى والأمر أزيد ممَّا كان وأوكدَ ، لكن حقوق الناس بعضهم مع بعض وحقوق الله عليهم هم فيها تحت حكم الله.

أنتم تعلمون أنَّ الصديق الأكبر فى قضية الإفك التى أنزل الله – عزَّ وجلَّ - فيها القرآن حلفَ ألاَّ يصل مسطح بن أثاثة ؛ لأنَّه كان من الخائضين فى الإفك ؛ فأنزل الله – تعالى - : " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " ، فلمَّا نزلتْ قال أبو بكر : بلى ، والله إنِّى لأحبُّ أن يغفر الله لى فأعاد إلى مسطح النفقة التى كان ينفقها .
ومع ما ذُكر من العفو والإحسان وأمثاله وأضعافه والجهاد على ما بعث الله به رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم - من الكتاب والحكمة أمر لا بد منه " فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنَّما وليُّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإنَّ حزب الله هم الغالبون " ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، والحمد لله ربِّ العالَمين ، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وسلَّم تسليماً ".العقود الدرية / 13
نسأل الله المعونة على طاعته والصبر والثبات.