خيار مُقاطعة الاستفتاء.. عُزلة اختيارية غير موضوعية

  • 194

دائماً ما تُوَاجه الاستحقاقات الانتخابية خلال فترات الاستقطاب السياسي الحاد بدعوات إلى مُقاطعتها -كما هو الحال بالنسبة إلى الاستفتاء المُرتقب على وثيقة تعديلات دُستور 2012-، وفي تقديري إن الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء على الدستور المُرتقب تنبع في الأصل من دافعين رئيسيين ؛ الأول للإخوان وتحالفهم الكومبارسي الذين يرفضون العملية السياسية برُمَّتِها -من حيث المبدأ-، وليس حديثي -الآن- عن هؤلاء، وإنما يعنيني مُناقشة الدافع الثاني -لأنه الأكثر منطقية وبُعداً عن الاستقطاب السياسي اللاموضوعي- ؛ فقد سمعت وقرأت -في الأيام القلائل الماضية- لبعض الفضلاء يرفضون المشاركة في الاستفتاء على الدستور والعملية السياسية لا من حيث المبدأ، ولكن بسبب عدم الاقتناع بجدواها -في هذه الظروف-، و أتصور أن هذا الرأي قد يجد صدىً عند بعض فئات المجتمع غير المُسَيَّسة، التي صارت تميل إلى اعتزال العملية السياسية، كجزء من حالة الإحباط السياسي المُخَيِّم على الرأي العام .

والحق أن هذا الرأي رغم ما قد يبدو -ظاهراً- فيه من وجاهة، إلا أنه -في رأيي- فرض لنَوْع من العُزلة السياسية الاختيارية، التي لم نُضطر إليها، ولم تَسْتَحْكِم أسبابها بعدُ ؛ إذ أنه من البديهي أن قرار اعتزال مسار ما من مسارات الإصلاح، ينبغي أن يكون محكوماً بمجموعة من العوامل :
?- مدى جدوى هذا المسار الإصلاحي .
?- تكلفة المشاركة فيه ( والموازنة بينها وبين الجدوى حال اجتماعهما ) .
?- المسارات الإصلاحية البديلة ؛ إتاحتها أولاً، ثم حجم التأثير المنتظر من ورائها ثانياً، ( والموازنة بين هذا كله والعاملين السابقين ) .
ومن ثَمَّ فالمسار الذي يجب اعتزاله حتماً هو ما تنعدم جدواه، في ظل ارتفاع تكلفته مع توافر وتنوع البدائل الإصلاحية،
ومن ثَمَّ دعونا نتساءل :
*ما هي الخسائر المُترتبة على المشاركة في الاستفتاء -من حيث المبدأ حتى لو كان التصويت بالرفض- في الدين أو في الدنيا ؟ الجواب: لا خسائر، بل على العكس هو نوع من تنشيط الحياة السياسية وإرجاع المواطنين للصندوق مرة أخرى.
*ثُمَّ سؤال آخر: هل ستتأثر البدائل الإصلاحية بالمشاركة -من حيث المبدأ-؟ بمعنى أن المشاركة ستعيق بديلاً إصلاحياً آخر كالعمل الدعوي التعليمي والتربوي؟ أو النشاط الاجتماعي؟ الجواب: لا، بل هي مسارات تتوازى، ولا تتوالى، وتتكامل، ولا تتنافر -على الأقل في هذه المرحلة-، فإذا كان المسار السياسي -في الظرف الحالي-منخفض التكاليف، بمعنى أنه لا يترتب عليه خصم من المبادئ، أو تنازل عن الثوابت الدينية والأخلاقية، ثُمَّ إنه لا يؤدي -كذلك-إلى تعطيل غيره من المسارات الإصلاحية، فلماذا نمتنع عنه؟ إن كان له أثر إيجابي فبها ونعمت، وإلا فلم نخسر شيئاً .

*ثُمَّ دعونا نقف وقفة أكثر تفصيلاً مع قضية الجدوى، لأن البعض سيقول : " نمتنع عنه لعدم جدواه، فإنه إن لم يكن مُضِرَّاً فليس يُفيد "، وأرى أن المُشكِّكين في جدوى الاستفتاء، يرتكزون في إثبات عدم الجدوى على مُرتكَزَين رئيسيين :

الأول : فقد الثقة في تغيير المنظومة القانونية كوسيلة للتغيير، إذ أن الحالة السياسية في مصر تشير إلى أن الإشكالية الكبرى ليست في الصياغة الدستورية والقانونية المُجوَّدة، وإنما في تطبيق هذه الصياغات وتحويلها إلى واقع عملي، وهو أمر مُتَعَذِّر في ظل الفساد، والبيروقراطية، والترهُّل، والتسيس، الذين ضربوا بجذورهم في مؤسسات الدولة، التي يُفترض اضطلاعها بهذا الشأن، ومن ثَمَّ فإن أصدقاءنا هؤلاء يقولون : " لماذا نشارك ؟ ليس هناك قيمة في هذا البلد لدستور ولا لقانون، وتغييرهما لن يَتَرتَّب عليه شيء يُذكر في دنيا الواقع " .
والجواب على هذا : أنَّ الدولة لا بد لها من بناءٍ قانوني –شئنا، أم أبينا، رضينا، أم سخطنا-، إذاً فلأن يكون هذا البناء القانوني أقرب لتطلعاتنا وطموحاتنا، خيرٌ من الضد، حتى وإن لم يكُن هناك إرادة سياسية لتنفيذه، أو قدرة شعبية ومُجتمعية لإلزام الدولة بتبنيه -الآن- فهي خطوة على الطريق الصحيح ولا شك ( ولكي تتأكد من هذا حاول أن تتصور العكس، وهو كون البناء القانوني للدولة كأسوأ ما يكون ؛ مصادم -صراحةً- للشريعة، مُقيِّد للحريات، مُكرِّس للفساد، هل يُتصوَّر -في ظله- سهولة عملية الإصلاح السياسي ؟ أم تَعَقُّدها وتَعَسُّرها ؟! هل نكون -حينها-قد اقتربنا خُطوة أم ابتعدنا خُطُوات ؟!! فلنكن صرحاء مع أنفسنا).

فإذا تجاوزنا تلك القضية -الخاصة بمدى جدوى إصلاح المنظومة القانونية- فسيظهر أمامنا الاعتراض الثاني: المُتَمَثِّل في ضعف الثقة في نزاهة عملية الاستفتاء -ابتداءً- بسبب ما نراه -جميعاً- من اشتداد القبضة الأمنية للدولة، والتوسع في الإجراءات المُقَيِّدة للحريات، التي تتخذها الدولة ضد المعارضين -حتى السلميين منهم-، مما يوحي بأن الدولة ماضية في طريقها لن يثنيها عن ذلك شيء، ومن ثَمَّ فلا يستبعد تزوير الاستفتاء، وذهاب الأصوات أدراج الرياح، والحق أننا شاركنا -منذ ثورة يناير إلى يومنا هذا- في خمس عمليات اقتراع و تصويت ( استفتاءين، وثلاث عمليات انتخابية في ست جولات ) أشرفت عليها -جميعاً- نفس السلطة القائمة حالياً ( المجلس العسكري، والهيئات القضائية )، وحظيت كلها برضا شعبي عام عن نزاهتها، فلماذا الامتناع الآن ؟ ولماذا لا نسعى لسلوك أكثر إيجابية، وهو السعي في مزيد من ضمانات الشفافية؛ مثل كون الفرز في اللجان الفرعية، وإشراف الجمعيات الأهلية ومُنظمات المُجتمع المدني على عملية الاستفتاء، بل وحتى المُراقبة الدولية، إضافة إلى الإشراف القضائي الكامل -وهو ضمانة لا يُستهان بها-، ولا تنسوا أن الانتخابات الوحيدة التي تمت في عهد مُبارك بإشرافٍ قضائي كامل وهي انتخابات 2005 عجز نظام مُبارك عن تزويرها -إلا تزويراً مُفتضحاً في مرحلتها الأخيرة-، ثُمَّ إن إصدار حُكمٍ خطيرٍ -كهذا- على عمليات الانتخاب، والاقتراع بعدم النزاهة لا يُمكِن ولا يصح -أبداً- أن يكون حُكماً مُسبقاً، بل لا بُدَّ من تجرُبة حية، نستطيع التقييم من خلالها، وها هي التجرُبة الحية أمامنا؛ فلنشارك فيها بفاعلية ( سواء بنعم، أو لا فليس هذا ما يهمني الآن )، فإن المُشاركة الكثيفة سلوك إيجابي، سُتضعِف أي احتمالات مُدَّعاة للتزوير، وستفضحُها إن حصلت -لا قدَّر الله تعالى- .

لذلك أقول احتمالات كون التصويت المُقبِل مُجدياً ومؤثراً كبيرة جداً -بل هي الأصل بإذن الله- ( ومن جدواه كشف التزوير -إن وُجِد- )، فلا تُضيِّعوا فرص التأثير بأيديكم لمُجرَّد الخضوع العاطفي لسخافات الإخوان، الذين يُصِرُّون على التجاهل التام للواقع، والتحليق في الخيالات والأوهام ( فلاهم نجحوا سياسياً، ولا الانقلاب المزعوم تهاوى، ولا حقنوا الدماء بل حتى نزيف الأخلاق والشعبية لم ينجحوا في إيقافه !!!!! )، وإذا كانت السياسة تُعَرَّف بأنها فن المُمكن، أو بتعبير آخر ( كيفية تحقيق المطالب والمكتسبات؛ من خلال استعمال الآليات الواقعية )، فمن البديهي أن نُدرك أن هذا الموقف من الإخوان لا علاقة له بالسياسة، من قريب ولا بعيد، بل هو سلوك إداري تنظيمي بحت، لا يهدف إلا إلى المُحافظة على تماسُك التنظيم، ومن ثَمَّ لا يُستغرَب عدم مُراعاته موازين القوى، ولا القدرة على تحقيق المطالب من خلال آليات الفعل السياسي، فالحقيقة المُرَّة هي أن هذا السلوك السياسي لجماعة الإخوان هو سلوك اضطراري، اضطرت إليه الجماعة -رغم تيقنها من فشله- لأن خطاب التعبئة الثورية، وشيطنة الآخر الذي تبنوه، قطع عليهم كل سبيل للعودة إلى العملية السياسية، ومن ثَمَّ استحكمت الخسارة في الحاضر، والمستقبل القريب، وصار رهان الجماعة الوحيد هو الظهور بمظهر الصمود؛ للحفاظ على تماسُك الكيان، وكذلك لمحاولة إدراك المستقبل البعيد؛ من خلال بكاء المظلوميات، والتغني بالبطولات؛ لاستجلاب التعاطف، والدعم السياسي -فيما بعدُ- ( لاحظ أنهم في ظل كل هذا النبذ للمسار السياسي، والتشكيك في نزاهة الاستفتاء شاركوا في انتخابات التجديد النصفي في النقابات، رغم أنه لا يتوفر لها عُشر الضمانات التي ستتوفر في الاستفتاء !!!!!!! ).

لذلك أقول: إذا كانت قيادة الإخوان قد اضطرت لهذا الموقف حالياً؛ بسبب رهاناتها الخاطئة فيما مضى، فلا نحن، ولا غيرنا مضطرون؛ لأن نعزل أنفسنا بأيدينا في لحظة خطيرة، ومرحلة حساسة كالتي نعيشها، ولأن يكون الإنسان إيجابياً فيصعد درجة من ألف، أو يسير خطوة من مائة خير له بكثير وأكثر مواءمة لواقعه من خيار الجري في المكان، الذي يُضعِف طاقته في غير تَقَدُّمٍ ولا تأخُّر، والله المُستعان.