منهج حياة

  • 256

بعد حمد الله، والصلاة والسلام على رسوله:
تضمنت الآيات في خاتمة سورة الإنسان منهجا أراه مناسبا لحالنا الذي نعانيه، من الاختلاف والتفرق، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وتنامي التيارات المعادية للعمل بالشريعة الإسلامية، وسيطرتها على الإعلام ومقاليد الأمور، بما يتطلب تعهد النفس بالإصلاح، والمزيد من التقرب من الله تعالى، رجاء نيل مرضاته، وإدراك رعايته، في هذه الأحوال المضطربة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} [الإنسان: 23] وهذا امتنان من الله على الأمة بهذا القرآن العظيم، وتأكيد على أن هذا القرآن منزل من عند الله. {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 24] آمرا بالصبر على قضائه. قال ابن كثير: (كما كرمتك بما أنزلت عليك، فاصبر على قضائه وقدره، واعلم أنه سيدبرك بحسن تدبيره). عن ابن عباس: (اصبر على أذى المشركين، هكذا قضيت)، قال القرطبي: (وقيل: أي اصبر لما حكم به عليك من الطاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك أنه ينصرك عليهم، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة). وقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]، قال فيه ابن كثير: (أي لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صدك عما أنزل إليك بل بلغ ما أنزل إليك من ربك وتوكل على الله فإن الله يعصمك من الناس)، والآثم: هو الفاجر في أفعاله، والكفور: هو الكافر قلبه. قال القرطبي: (ف-أو – قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى)، (وقيل: الآثم المنافق، والكفور: الكافر الذي يظهر الكفر).
قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25] أي صل لربك أول النهار وآخره {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} [الإنسان: 26] قال القرطبي: (يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة)، {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26] يعني التطوع في الليل، قال ابن عباس: (كل تسبيح في القرآن فهو صلاة). وقيل: هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو غيرها.
قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27] وهذا توبيخ وتقريع لمن يذرون الآخرة خلف ظهورهم فلا يعملون لها. كما قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17]. والعاجلة: الدنيا، واليوم الثقيل: يوم القيامة، سمي ثقيلا لشدائده وأهواله، وقيل للقضاء فيه بين العبادة. وفي هذا يقول بعض السلف: لو أن الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان على العاقل أن يختار الخزف الذي يبقى على الذهب الذي يفنى، فكيف والدنيا خزف يفنى والآخرة ذهب يبقى.
قوله تعالى {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الإنسان: 28] الأسر: الخلق، قال ابن عباس وغيره: (وشددنا أسرهم: أي خلقهم). قال القرطبي: (والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية، أي سويت خلقك وأحكمته بالقوي ثم أنت تكفر بي). (وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا) عن ابن عباس: يقول لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بطوع لله منهم. وهذا كقوله تعالى {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19، 20]، وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133].
قوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان: 29]، تذكرة: موعظة، (اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا): أي طريقا موصلا إلى طاعته، وطلب مرضاته. قال ابن كثير: (أي من شاء اهتدى بالقرآن). قوله تعالى: ({وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30])، (وما تشاءون) أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله، وفي قراءة أخرى متواترة أيضا (وَمَا يَشَاءُونَ) على معنى الخبر عنهم. (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ليس إليهم، وأنه لا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم مشيئته. قال ابن كثير: أي لا يقدر أحد أن يهدي نفسه ولا يدخل في الإيمان، ولا يجر إلى لنفسه نفعا إلا أن يشاء الله. قوله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) قال ابن كثير: (أي: عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له ويقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة). قال القرطبي: ((عليما) بأعمالكم، (حكيما) في أمره ونهيه لكم).
 قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان: 31]} [الإنسان: 31] أي يدخله الجنة راحما له، (وَالظَّالِمِينَ) أي: ويعذب الظالمين، نصب الظالمين بإضمار يعذب، قال الزجاج: نصب الظالمين لأنه قبله منصوب، أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين، ويكون (أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) تفسيرا لهذا المضمر، ويدل عليه. والأليم: الموجع.
 ولا شك أننا في حاجة إلى العمل بما في هذه الآيات من توجيهات خاصة في أيامنا هذه، إلى أن يجعل الله لنا من هذا الهم الذي نعانيه مخرجا.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.