الدستور والبدائل

  • 215

لابد لمن يتخذ قرارًا، أو يصدر توجيهًا أو حكمًا، أو فتوى في مسألة عامة - كمسألة التصويت على الدستور- تمس حياة الأمة كلها، بل تمس مستقبل المنطقة العربية والإسلامية كلها، أن تكون لديه الموازنات الشرعية، ليس فقط معرفة الحسنات من السيئات، والمصالح من المفاسد، بل لابد أن تكون لديه القدرة على الاجتهاد بين الحسنات إذا تزاحمت أي الحسنات يُقَدم ولو فاقت الأدنى، والسيئات إذا تدافعت أي السيئات أشد لتترك ولو فعل الأهون منها- أو يترك غيره يفعلها ؟ والحسنات والسيئات إذا اجتمعت بحيث لا يستطيع المرء أن يفعل الحسنة إلا إذا فعل معها سيئة ولا يستطيع أن يترك السيئة إلا إذا ترك الحسنة، فأي هذه الحسنات والسيئات يُقدم وأيها يُؤخر، وأيها يُفعل وأيها يُترك؟

ويلزمه حتى تتحقق له هذه الموازنات أن يكون على معرفة بالواقع بحقائق من مصادر معلومات بلا أوهام قدر الإمكان، يستطيع بها معرفة تقييم الأشخاص والهيئات والجماعات، واتجاهات الدول والحكومات والأنظمة ليعرف بذلك المآلات الراجحة والمرجوحة والغالبة على الظن والمتوهمة، ليتخذ القرار الصحيح المبني على العلم لا على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا.

ولا يجوز لمتكلم في مثل هذه المسائل أن تكون أمامه مصادر للمعلومات سواء منها الشرعية، أو الواقعية، ثم يعرض عنها ويكتفي بأدنى الظن في الأمور الشرعية، وأكذب الحديث في الأمور الواقعية باسم الاجتهاد، فيتسرع في الفتوى والحكم على المسائل والأشخاص والهيئات دون أن يحسب أدق الحسابات فيما يمكن أن تتعرض له الأزمة، وخاصة أهلها ومستقبلها، أعني شبابها رجالاً ونساءً.

ربما ليقنع نفسه بأنه له حق الاجتهاد، وأنه رأس يُتبع فلا يجوز أن يكون تابعا، والحقيقة أن الحرص على العلم بالشرع والواقع الذي يترتب عليه الحكم الشرعي، ضرورة للمفتي والعالم والقائد خصوصا في أزمنة الفتنة والمحن، والتشاور بين أهل العلم والدعوة هو أعظم وسيلة شرعية للوصول إلى الحق في هذه المسائل الملمة والنوازل الخطيرة.

لذا نقول في مسألة الدستور: ما البدائل المتاحة والمحتملة والمتوهمة في حال رفضه، فهناك من لا يزال يتوهم أن رفضه سيترتب عليه ببساطة سقوط ما يسميه بالانقلاب وعودة حكم الإخوان باسم الشرعية مهما كانت خسائر هذا الخيار على الجماعة والدولة والأفراد، ونحن نجزم أن هذا الخيار لم يعد له عند الشعب المصري احتمال، وهو يتأكد يومًا بعد يوم بالأحداث الدامية التي تدفع جماعة الإخوان شبابها ومن وافقهم إليها وهي رغم تضليلات بعض القنوات التي أوهمت صانعي القرار فضلاً عن منفذيه بأن الشعب يقترب منهم تحت ضغط دور الضحية، والحقيقة أنه يزداد بعدا ورفضا.

وخيار آخر هو استمرار الاضطراب والانقسام المجتمعي الذي يريده أعداء الأمة لتحقيق أهداف الفوضى الخلاقة- لأغراضهم طبعا لا لخير الأمة- حتى تصل البلاد إلى الانهيار الاقتصادي الذي يؤدي إلى انهيار الدولة والاحتراب الداخلي الذي يسقط معه ملايين الضحايا وتجري الدماء أنهارا، وللأسف هو خيار لا مانع منه عند بعض من يتسمون بالإسلاميين، وأخشى ما نخشاه أن يكون نابعا من تكفير المجتمع الذي لا يستحق عندهم مراعاة حرمة دم أو عرض أو مال، وهو عندنا من أسوء الاحتمالات وندعو الله بالمعافاة منه وإن كنا نرى أن خطره ما زال قائما.

وهناك خيار آخر هو أن تحاصر مصر اقتصاديا ويتم التدخل الأجنبي- عسكريا أو سياسيا أو اقتصاديا- ليفرض على الضعفاء المفترقين كل ما يريد من شروط ليكون المنتصر فيهم أضعف ما يكون لا يستطيع إلا الرضوخ لشروطهم التي لا تحقق إلا مصلحة العدو، ويتأكد ذلك بانقسام القوات المسلحة، وانتهاء وجود الجيش المصري آخر الجيوش العربية في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي، وعند ذلك لن يقف الأمر على مصر بل ستنهار كل دول المنطقة ويعاد تقسيمها من جديد، لإيجاد الشرق الأوسط الجديد الذي تحتل فيه دولة الكيان الصهيوني ثم إيران بمسافة طويلة موضع الصدارة في اتخاذ القرار في كل شئونه.

وأما الخيارات الأخرى فاستمرار الحال بالإعلانات الدستورية التي تمكن من بناء مؤسسات للدولة، أو بالعودة إلى دستور71، على كل ما فيه من نقص وتضييع لأية مكاسب اكتسبتها البلاد نحو التوجه الإسلامي للمجتمع الذي يتعرض اليوم لأعظم المخاطر بسبب الممارسات الخاطئة والقرارات الخرقاء، والفتاوى التي لا تنظر إلا بعين واحدة، وبتر للنصوص وخطأ في التقدير.

أو ندخل في دوامة لجنة جديدة لن يجد الإسلاميون فيها ولو مقعدًا واحدًا يعبر عنهم، إذ هم على كثرتهم لا يمثلون رقمًا واحدًا موثرًا في معادلة صعبة صعب حلها، وإذا كان بعض المشايخ الأفاضل قد أفتى في شأن دستور 2012، بأنه حتى ولو كان فيه كفر فقد تكون الموافقة عليه مشروعة بدفع كفرٍ أشد، ومفسدٍة أشد، مع أننا لا نوافق في المسألتين وهما وجود الكفر في دستور 2012، والثانية جواز الموافقة على ما يتضمن الكفر- فالدستور السابق لم يتضمن كفرا بحمد الله، ولن نحتاج إن شاء الله للموافقة على ما فيه كفر، وإن كان الأمر بعد المراجعة لهذا الفاضل راجعا إلى عدم قراءة الدستور، أو إلى عدم فهم مواده في ضوء تقييد مواده ببعضها- كما هو الحال في التعديلات الدستورية الحالية (دستور 2013، فإنه لا يتضمن كفرا كما زعم من زعم باطلا وزورا، وإن اتهم حزب النور بأنه حزب الزور والخيانة والعمالة- وهو من باب رمتني بدائها وانسلت).

نقول إذا كان بعض المشايخ قد أفتى بذلك في ظل أغلبية للإسلاميين ورئاسة تنتمي لهم، وقبول واسع في الشارع دل عليه نتيجة الاستفتاء- فكيف لا يقبل البعض مثل هذا الاجتهاد في ظل ظروف هي أصعب بكثير بل كثير جدا لو أمكن فيها إيقاف نزيف الخسائر لكان هذا نصرا عظيما، فكيف لا يقبل مثل هذا الاجتهاد وليس في الدستور الجديد كفر بحمد الله، وكل العبارات المحتملة يجب دستوريا تفسيرها في ضوء النصوص الصريحة لمرجعية الشريعة.

إننا نهيب بالدعاة وأهل العلم في داخل مصر وخارجها أن ينظروا للمسألة بعين العدل والإنصاف والكيل بنفس المكيال لا بمكيالين، وأن يسمعوا ممن باشر وعانى وسهر وتعب غاية التعب حتى وصل إلى هذه النتيجة التي لا تخطئها إلا عين ظالمة أو غير مبصرة.

أقول إن الموافقة على هذا الدستور بنعم هو أفضل البدائل لشعبنا، في هذه الظروف وهذا هو الممكن لا المطلوب وهو المتاح لا المرجو، وآخر كلامنا قول شعيب عليه السلام: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".