مواقف الدعوة السلفية بين التأصيل الشرعي والواقع المرعي (1)

  • 194

يبذل البعض قصارى جهده في تشويه الدعوة السلفية وحزب النور،ويرميهما بكل نقيصة، بدءًا بالتخوين وانتهاءًا بالتكفير، حتى أن المطالع لهذه الحملة، التي تُشن بلا هوادة؛ ليحسب أن هدم تلك الدعوة المباركة، أضحي هماً ومرادًا لهؤلاء، كل هذا سببه الظاهر ما اتخذته الدعوة من مواقف واضحة خلال الأزمة التي تحياها البلاد، والذي يُدمي القلب، ويثير الآسي، أن ما يوجه إلى الدعوة من انتقادات وطعون، أبعد ما يكون عن موازين العدل والموضوعية، فهي أحكام قائمة علي الجور والهوى والبهتان، مما يجعلنا نقطع بأن المشوار لا زال طويلاً، وأن جيل التمكين لمَّا يأت بعد، وأنَّ ما أصابنا هو مما كسبت أيدينا .

وها نحن نطرح هذه المواقف، على بساط البحث العلمي، بين التأصيل الشرعي، والواقع المرعي؛ ليتعلم القاصي والداني، أن هذه المواقف كانت انطلاقاً من الثوابت المنهجية، والضوابط الشرعية؛ فليست نكاية لأحد، ولا محاباة لأخر.

وهذه المواقف هي:                          
1ـ رفض الخطاب التكفيري.   
2ـ رفض خطاب العنف، والتحذير من الصدام.
3ـ المشاركة في العملية السياسية (خارطة الطريق).
4ـ المشاركة في التعديلات الدستورية والتصويت عليها بالموافقة.
وبعد الإجمال، يأتي التفصيل :

أولاً : رفض الخطاب التكفيري:

ما إن زادت المعارضة في الشارع للدكتور مرسي، والتي اتخذت أشكالاً شتي، ومع تفاقم الأزمات، احتدام الهجوم على الإسلاميين، لاحظ الجميع الهبوط الحاد في شعبيتهم، والذي بدت مؤشراته في انتخابات الرئاسة، مقارنة بالانتخابات البرلمانية، وبدلاً من التعامل مع الوضع بالصورة الصحيحة، وذلك بالبحث عن الأسباب التي أدت إلى ذلك، ومحاولة علاجها، والاستفادة من نصح الناصحين، وعلى رأسهم الدعوة السلفية، إذا بنا نجد البعض يستدعي خطاب التكفير، ويعلن تقسيم الأمة إلى معسكرين: معسكر إيمان، والأخر معسكر الكفر والنفاق، حتى بدا في الأفق أننا أمام موجة تكفيرية، تشبه إلى حد كبير موجة التكفير في الستينيات، وحلق في الأفق الفكر القطبي التكفيري، والذي من أبرز سماته عدم الالتزام بالضوابط الشرعية في هذاالباب، أعني -باب تكفير المسلم- فما كان من الدعوة السلفية إلا أن أعلنت موقفها بكل وضوح، برفض هذا الخطاب، والوقوف في وجهه بكل قوة، وذلك انطلاقاً من منهجنا السلفي السني، القائم على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، إذ التكفير حكم من الأحكام الشرعية، التي لا مدخل لرأي فيها أو هوي، بل هو سمعي محض، فالمؤمن : من حكم الله ورسوله له بالإيمان، وكذا الكافر: من كفره الله ورسوله، فليس لأحد أن يطلقه علي أحد بمجرد الظن أو الهوى، كما أنه لا يحكم بإسلام، أو إيمان لمن كفره الله ورسوله، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: (فإن الكفر والفسوق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل ؛ فالكافر : من جعله الله ورسوله كافراً، والفاسق : من جعله الله ورسوله فاسقاً، كما أن المؤمن والمسلم : من جعله الله ورسوله مؤمناً ومسلماً، والعدل : من جعله الله ورسوله عدلاً، والمعصوم الدم : من جعله الله ورسوله معصوم الدم، والسعيد في الآخرة : من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الدنيا والآخرة ؛ والشقي فيها : من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها ...) إلى أن قال:(.. فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع) اهـ [منهاج السنة: 5/92].

ولمَّا كان التكفير حكماً شرعياً، وحقاً لله تعالى، كان لزاماً على العبد التقي، الذي يخشي ربَّه، ويخاف يوم الحساب، ألا يُعاقب به، فليس له أن يُكَفِّرَ من كَفَّره، يقول شيخ الإسلام:-رحمه الله تعالى-:(فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يُعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزني بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله؛لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى وكذلك التكفير، حق لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله) اهـ . [الرد علي البكري: 260]

ولمَّا كان الأمر كذلك، كان التكفير مبناه على التثبت والتحري، لا على الاندفاع والتجري، إذ الحكم على من ثبت إسلامه بيقين بالخروج من الإسلام، والدخول في دائرة الكفر، بغير حقٍ، ولا بينةٍ أوضح من شمس النهار، جناية عظيمة، وجريمة شنيعة، لا يقدم عليها إلا مخاطر، لا يقدر الأمور قدرها، ولا يعد ليوم الحساب عدته. وأي بغي وعدوان أعظم من أن تحكم على مسلم بانخرام عقد إسلامه، فتذهب عنه عصمة الدم والمال - هذا في الدنيا – مع الحكم عليه بالخلود في النيران في الآخرة .

ولخطورة ما يترتب على الكفر من أحكام، أتت أدلة الشرع تحذر أشد التحذير من ولوج هذا الباب، والإقدام على هذه المسألة، إلا لمن تأهل لذلك، برسوخ القدم في العلم الشرعي، وبدليل أوضح من شمس النهار، فالأمر في التكفير مبني على التثبتوالتحري، لا على الاندفاع والتجري؛ ولأن يخطئ الإنسان في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة .

ففي الصحيحين : عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:"أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا". وفي رواية " أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ ".[أخرجه البخاري: 6104، ومسلم: 60 ].

وَعَنْ أَبِي قِلاَبَةَ: أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»[أخرجه البخاري: 6047].

ولذا كان أهل السنة والجماعة يُفَرِّقون بين كفر العموم، وكفر التعيين، فيطلقون الكفر على العموم، فيقولون مثلاً بأن من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة كفر، أو : من دعا غير الله عز وجل فقد أشرك، ونحو ذلك، ولكنَّ الأمر في المُعيَّن عندهم على خلاف هذا، فلا يُكَفِّرُونَهُ ـ مع وقوع الكفر منه ـ حتي تثبت في حقه الشروط، وتنتفي الموانع، فيفرقون بين الفعل، والفاعل، فالفعل يكون كفرًا، لكن لا يكفر صاحبه، حتى تقام عليه الحجة الرسالية. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-:(إذا عُرِف هذا، فتكفير المُعيَّن من هؤلاء الجُهَّال وأمثالهم ـ بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار ـ لا يجوز الإقدام عليه، إلا بعد أن تقوم علىأحدهم الحجة الرسالية، التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر .

وهكذا الكلام في جميع المُعيَّنين، مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يُكَفِّر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتُبَيَّن له المحجة .

ومن ثبت إيمانه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول ألا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة) أهـ [مجموع الفتاوى: 12/501].

وهاك بعض نماذج السلف :

النموذج الأول:

موقف علي رضي الله عنه، انظر إلى هذا الفرق الشاسع، والبون الواسع، إلى موقف علي رضي الله عنه من مخالفيه؛ سواء من الخوارج الذين كفروه واستحلوا دمه، أومن أهل الجمل، الذين قاتلوه، فلم يكفر أيًا من الطرفين، ووصف أهل الجمل بأنهم إخوانه، على الرغم مما دار بينهم من قتال، وهاك

الآثار :

في أهل الجمل:

عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ أَهْلِ الْجَمَلِ: أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا , قِيلَ: أَمُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: إِنَّ " الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا , قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا ". [أخرجه ابنأبيشيبة في مصنفه:  7/ 535]،وفى السنن الكبرى للبيهقي عن أميرِ المؤمنينَ علِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ أنَّهُ لما قاتل أهلَ الجملِ لم يَسْبِ لهم ذُرِّيَّةً، ولم يغنم لهم مالًا، ولا أجهَزَ على جريحٍ، ولا اتَّبَع مُدبِرًا، ولا قتل أسيرًا، وأنه صلَّى على قتلى الطَّائفتينِ بالجمَلِ وصِفِّينَ، وقال : إِخْوَانُنا بَغَوْا علينا".  قال ابن تيمية في كتابه حقوق آل البيت هذا الأثر ثابت من وجوه.
 
** أما في الخوارج:

عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ , فَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ النَّهْرِ، أَهُمْ مُشْرِكُونَ؟ قَالَ: مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا , قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا , قِيلَ لَهُ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: قَوْمٌ بَغَوْا عَلَيْنَا "[أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: 7/ 56].
وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ،قَالَ: قَالُوا لِعَلِيٍّ حِينَ قَتَلَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ: أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟قَالَ: «مِنَ الشِّرْ كِفَرُّوا»،قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: «الْمُنَافِقُونَ لَايَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّ اقَلِيلًا»،قِيلَ: فَمَاهُمْ؟قَالَ: «قَوْمٌ حَارَبُونَا فَحَارَبْنَاهُمْ،وَقَاتَلُونَا فَقَاتَلْنَاهُمْ». [تعظيم قدرالصلاة لمحمد بن نصرالمروزي:2/ 544]
 

عن علي رضي الله عنه: أَنَّهُ سُئِلَ عن أهل النهروان أكفار هم قَالَ مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا قِيلَ فَهُمْ مُنَافِقُونَ فَقَالَ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلً اقِيلَ فَمَاهُمْ قَالَ قَوْمٌ ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَعَمُوا عَنِ الْحَقِّ وَهُمْ بَغَوْا عَلَيْنَا فَقَاتَلْنَاهُمْ فَنَصَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ.[الاستذكار: 2/ 501]

وقارن هذا، بالذين يطلقون ألسنتهم بتكفير مخالفيهم؛ لتعلم مدى الشطط الذي وقع فيه البعض، وإن تعجب، فعجب صنيعهم، حيث يريدون أن ننزلق معهم في هذا المستنقع الآثم، فلما بينا, تمسكًا بمنهجنا المبارك، وتأسيًا بساداتنا، من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، إذا هم يرموننا بأبشع التهم، ويسبوننا بأقذع الألفاظ، وأيم الله لن يفت ذلك في عضدونا، ولن يزيدنا إلا ثبات على منهج أهل السنة .

النموذج الثانى:

موقف الإمام أحمد رحمه الله ـ إمام أهل السنة والجماعة – من أعيان الجهمية، الذين آذوه وحبسوه، ودعوا الناس إلى بدعتهم، بل حملوهم عليها حملا، حتى عاقبوا كل من يخالف وكفروه (...وما هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور، يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق, وإن الله لا يرى في الآخرة, وغير ذلك,ويدعون الناس إلى ذلك، ويمتحنونهم، ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم, حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه، حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق, وغير ذلك, ولا يولون متوليًا، ولا يعطون رزقًا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك, ومع هذا, فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم , واستغفر لهم , لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول صلّى الله عليه وسلم , ولا جاحدون لما جاء به, ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا من قال لهم ذلك) أ.هـ [مجموع الفتاوى 23/349].


النموذج الثالث:

موقف شيخ الإسلام رحمه الله مع مخالفيه من الجهمية فيقول:(ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة، الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش، لما وقعت محنتهم :أنا لو وافقتكم كنت كافرًا, لأني أعلم أن قولكم كفر, وأنتم عندي لا تكفرون, لأنكم جهال, وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم ) أ.هـ [الرد على البكري 46].