مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ

  • 213

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا، الهادي إلى سواء السبيل، وأن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً: أما بعد:

فإن الله عز وجل وعد المجاهدين في سبيله بالهداية إلى سبل الخير، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. والمجاهدة في سبيله تشمل جهاد البدن والنفس، ومن مجاهدة النفس مجاهدة اللسان، فهو مجمع الأهواء، وجهاده من أشق الجهاد، وجهاد النفس أصعب من جهاد البدن؛ لأن البدن مأمور، والنفس أمارة بالسوء.

فما أحوج هذا اللسان إلى المجاهدة والحفظ؛ لأن حصائده هي أصل الهلاك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ". [أخرجه الترمذي: 2616، وقال حسن صحيح، وصححه الألباني]، وقد أصبح اللسان في هذه الأزمنة أصل البلايا، والرزايا، مما يتلفظ به من الباطل، والكذب، والسب، واللعن، والطعن، والغمز، واللمز، والخوض في الأعراض، والاستهزاء، والسخرية، والاستخفاف من الدين والشرع، وأعراض العلماء، والدعاة، والصالحين.

قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]، وعن أبى ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَفْضَلُ الْجِهَادِ أَنْ تُجَاهِدَ نَفْسَك وَهَوَاك في ذَاتِ اللهِ عَزَ وَجَلَ "[السلسلة الصحيحة: 1496]، قال محمد بن واسع لمالك بن دينار رحمهما الله: «يا أبا يحيي حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار، والدرهم». وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: «مَا حَجٌّ وَلَا رِبَاطٌ وَلَا جِهَادٌ أَشَدَّ مِنْ حَبْسِ اللِّسَانِ، وَلَوْ أَصْبَحْتَ يُهِمُّكَ لِسَانُكَ أَصْبَحْتَ فِي غَمٍّ شَدِيدٍ»، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عَلَيْكَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَطُولِ الصَّمْتِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا تَجَمَّلَ الْخَلَائِقُ بِمِثْلِهِمَا ". [السلسلة الصحيحة: 1938] ، فإن اللسان هو أعصى الأعضاء على الإنسان، وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته، وغوائله، والحذر من مصائده وحبائله، وإنه أعظم ألة الشيطان في استغواء الإنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يَرَى أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ".[السلسلة الصحيحة: 888]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ". [السلسلة الصحيحة: 2841]، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَنْ تَزَالَ سَالِمًا مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمَتْ كُتِبَ عَلَيْكَ وَلَكَ ". [صحيح الجامع: 5136]، وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه ملاك الأمر كله، بقوله له: «امْلِكْ عَلَيْكَ هَذَا»، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن النجاة بقوله: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَكْثَرَ خَطَايَا ابْنِ آدَمَ فِي لِسَانِهِ "، وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: "الفَمُ وَالفَرْجُ".  وعن الحسن البصري رحمه الله قال: «يا ابن آدم بُسِطَت لك صحيفة، وَوكِّل بك ملكان كريمان، يَكتُبان عملك، فأكثِر ما شئت أو أقِل »، وكان رحمه الله يقول: « مَن كَثُرَ ماله، كَثُرَت ذنوبه، ومن كثر كلامه كثر كذبه، ومن ساء خلقه، عَذَّبَ نفسه»، وذكر الله عز وجل أهل النار، وعملهم، فقال عنهم: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45]؛ أي في الباطل، والكذب، والغيبة، والنميمة ، وقد كثرت الأدلة من السنة النبوية الشريفة، في التحذير من خطر اللسان، وآفاته، والتحرز منه أشد التحرز، فإن الله يحصى على العبد ألفاظه، وكلماته، فقال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]، فعلى المسلم العاقل أن يمسك لسانه، ويحفظه، وأن يجعله فيما يعود عليه بالخير، وإصلاح نفسه وزكاته، وطهارة قلبه.

قيل للربيع بن خثيم: «ما نراك تغتاب أحداً»، فقال رحمه الله، «لست عن حالي راضياً، حتى أتفرغ لذم الناس» ثم أنشد:

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها             لنفسي من نفسي عن الناس شاغل

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «يا لسان قل خيراً تغنم، أسكت تسلم، من قبل أن تندم». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ ". [أخرجه الترمذي: 1977، وقال: حسن غريب وصححه الألباني]
ألا فليسمع هؤلاء، الذين أصبح شغلهم الشاغل عيوب الآخرين، والطعن فيهم، والسب، والشتم، والاستهزاء والسخرية من الناس، وانشغلوا عن عيوب أنفسهم وإصلاحها.

قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه        ويذكر عيباً في أخيه قد اختفي
ولو كان ذا عقل لما عاب غيره                           وفيه عيوب لو رآها قد اكتفي

وكذلك من خاض في العلماء، والدعاة، والصالحين بالكذب والافتراء، أما سمع قول مالك بن دينار رحمه الله: «كفى بالمرء شراً ألا يكون صالحاً، ويقع في أعراض الصالحين»

إن شئت أن تحيي ودينك سالم        وحظك موفور وعرضك صينٌ
لسانك لا تذكر به عورة امرئ       فكلك عورات وللناس ألسنٌ
وعينك إن أبدت إليك مساوئً     فصنها وقل يا عين للناس أعينٌ

أخي إن أردت الخير لنفسك؛ فزيِّن طاعة الله بالعلم، والحلم، والفقه، ثم أكرم نفسك عن أخلاق السفهاء، وعبِّدها على أخلاق العلماء، وعودها على فعل الحلماء، وامنعها عمل الأشقياء، وألزمها سيرة الفقهاء، واعزلها عن سبل الخبثاء.

اللهم وفقنا للمسارعة إلى طاعتك، والمبادرة إلى خدمتك، وحسن الأدب في معاملتك، والتسليم لأمرك، والشكر لنعمك.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.