الأخلاق الإسلامية وواقع الصحوة

  • 245

لابد أن يلمس الناظر في واقع الصحوة منذ الوهلة الأولى مدى الانحطاط الخُلقي والسلوكي الذي تعانى منه المجتمعات الإسلامية بوجه عام، ويعانى منه أبناء الصحوة الإسلامية بشكل خاص,  فأول مشكلة تواجهك في الواقع وجود صفات وخلال تنافى الإيمان، مثل (السب واللعن)، فليس من المتخيل هذا الانفصام الكبير بين السلوك والقول , فلابد إذا دعونا إلى خلق أن نكون أول من يتخلق به، وإذا نهينا عن خلق أن نكون أول من ينتهي عنه , فالسب واللعن من الصفات الذميمة التي طالما نهينا عنها، فكيف تصبح اليوم صفة لازمة لكثير من أبناء الصحوة؟!
 
ولايمكن أن يكون الخلاف السياسى أو أى خلاف من جنس الخلاف السائغ مبررا لما نراه في الساحة الإسلامية من التراشق بأقذع الألفاظ وأفظع الشتائم، ولا يمكن أن يكون اختيارك لرؤية سياسية معينة في موقف معين مبررا  للعن والطرد من رحمة الله، حتى على أقل تقدير كما يقول العلماء "التفريق بين القول والقائل، والفعل والفاعل"، هذا على اعتبار التنزل مع المخالف في أن القول والفعل يستحق اللعن والطرد من رحمة الله.
 
وأنا في هذا المقال إنما أسوق هذه الكلمات ليس للخوض في معركة سياسية لتبرير الموقف هذا أوذاك، لكنى أسوق هذه النصيحة لنفسى أولا، ثم لإخوانى؛ حتى نربأ بصحوتنا عن التدنى لهذا المستوى من النقاش عند الاختلاف، خاصة على صفحات النت؛ فالمتأمل يجد وكأن الناس لا يفقهون إلا السب واللعن والشتم والتقليل من الآخرين، واستنقاص أفكارهم، واحتقار آرائهم، والتلفظ عليهم بألفاظ نابية لا تمت لديننا الإسلامي بصلة، ولا تنم عن حسن تربية؛ لذا علينا أن نرتقي بأسلوب حوارنا ونرتقي بأسلوب طرحنا وانتقادنا، ولنجعل تحاورنا حوارا حضاريا مبنيا على الحقائق والآراء التي تُظهر حسن أخلاقنا،.

وتبين وجهات نظرنا بصورة راقية بعيدة عن القذف والسب واللعن؛ حتى تصل إلى قلوب وعقول الآخرين فيتقبلها الآخرون بكل رحابة صدر؛ يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: "إن التعصّب من آفات علماء السوء؛ فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار؛ فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه. ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة، لا في التعصب والتحقير لأنجحوا فيه، ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والتهم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم.

 والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئا من التعصب، خالصا لطلب الحق، خاليا من العنف والانفعال، بعيدا عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانية، مما يفسد القلوب، ويهيج النفوس، ويولد النفرة، وينتهي إلى القطيعة والضغينة بين الناس".
 
والسنة النبوية عامرة بالأحاديث التي تبنى ذلك فينا، سواء بالترغيب في الترك،أو بالترهيب من الفعل، ومنها قوله عليه السلام: " ليس المؤمن بطعان ولالعان ولافاحش ولابذيء" (رواه البخاري في "الأدب المفرد").
 
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَال :لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّابًا ، وَلَا فَحَّاشًا ، وَلَا لَعَّانًا ، كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: " مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ" (رواه البخاري)؛ و"ترب جبينه"قال الحافظ ابن حجر في بيان معناها:"قال الخطابي رحمه الله: يحتمل أن يكون المعنى خر لوجهه فأصاب التراب جبينه، ويحتمل أن يكون دعاءً له بالعبادة كأن يصلي فيترب جبينه، والأول أشبه؛ لأن الجبين لا يُصلى عليه،.

قال ثعلب: الجبينان يكتنفان الجبهة، ومنه قوله تعالى: وتله للجبين ـ أي ألقاه على جبينه ـ قلت: وأيضًا فالثاني بعيد جدًّا؛ لأن هذه الكلمة استعملها العرب قبل أن يعرفوا وضع الجبهة بالأرض في الصلاة، وقال الداودي: قوله: "ترب جبينه" كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم، وهي من التراب أي سقط جبينه للأرض, وهو كقولهم "رُغم أنفه"، ولكن لا يراد معنى قوله "ترب جبينه"، بل هو نظير ما تقدم في قوله "تربت يمينك"، أي أنها كلمة تجري على اللسان ولا يراد حقيقتها. اهـ.
 
وقوله صلى الله عليه وسلم : "إن من أكبر الكبائر ، أن يسُبَّ الرجُل والِديه ، قيل وكيف يسُبّ والِدَيه؟ قال : " يَسُبُّ أباَ الرجُل فيسُبُّ أباهُ وأمّه "، يعنى يسبه مباشرة أو حتى يتسبب في السب. (رواه البخاري في "الأدب المفرد").
 
ولقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ترك اللسان على غاربه في العصيان والطغيان ، وأنه سبب لانتقاص صاحبه أمام الناس في الدنيا ، ونقيصة وعيب في الآخرة ، فعن أَبِي مُوسَى رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " (رواه البخاري في "صحيحه").
 
وعَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ : لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ " (رواه مسلم في "صحيحه").
 
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
" الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا ، فَعَلَى الْبَادِي مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ " (رواه أبو داود، وهو حديثحسن صحيح).
 
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّه،ِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزكاتِهِ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأخذ مَالَ هَذَا ، وَسَفك دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ". (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
 
فهذه خطورة اللسان وما ينطق به من لعن أو سب أو قذف للناس بغير وجه حق ، أن تكون عاقبته أخذا من سيئات غيره فتطرح عليه ثم يطرح في النار والعياذ بالله.
 
 وعَنْ عَبْداللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ".(متفق عليه).
 
 وعن أبي الدَّرْدَاءَ رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". (رواه مسلم في "صحيحه").
 
 وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا بِغَضَبِهِ وَلَا بِالنَّارِ".(رواه الترمذي في "سننه"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" برقم:  7443 ).
 
فلا يجوز بحال لعن المؤمن مهما عمل من أعمال؛ لأن ارتكابه للذنوب لا يخرجه من الملة ، فهو مسلم ولو ارتكب المعصية ، لكن ينقص إيمانه بارتكاب المعصية ، ولا يجوز لعنه بها ، ومن لعن مؤمنا وهو لا يستحق اللعن ، رجعت اللعنة على صاحبها.
 
ومعنى اللعن : أي الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى ، واللعن من كبائر الذنوب؛ لأنه فيه أذية لمن لُعن ، والله تعالى يقول : " وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا" ( الأحزاب 58 ).
 
وعَنْ أَبِي قِلَابَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ ". (رواه البخاري في صحيحه).