التعصب المُضاد ، والتجرد المزعوم !!

  • 209

البعض تصَوَّر أن خلعه جلباب الكيانات الدعوية والسياسية يُعطيه صكاً بالبراءة التامة من التعصب التي لا تشوبها شائبة ، حتى صاروا يتعاملون مع المُنتمين للكيانات الدعوية والسياسية تعاملاً فوقياً نابعاً من شعورهم بالطهارة من هذا الداء الخطير الفتاك ؛ داء "التعصب" ، بينما الواقع أن عدداً لا يُستهان به من هؤلاء المساكين غارقون في التعصب حتى شَحَمات آذانهم ..

حكى لي أحد إخواني يوماً أنه شَهِد أحد أولئك المُبالغين في نقد فكرة الانتماء للأحزاب وقد رفض أن يمُدَّ يده لمصافحة أحد إخوانه لمُجَرَّد أنه "حزبي" !! سبحان الله !! أوليست هذه عصبية مُنكرة ؟!! وكم اكتوى المُجتمع وابتُلِيَ المُتدينون بالعصبية للأشخاص والآراء الاجتهادية ، وما انتخابات الرئاسة عنا ببعيد !! تَعصُّبٌ مقيت لشخص أحد المُرَشَّحين المُحتَمَلين ، واعتبار أن في تدعيمه المصلحة المُطلَقة للإسلام والشريعة !!! تقطيع لروابط الأخوة الإيمانية ، وولاء وبراء في غير مَحِلِّه !!

شواهِد كثيرة عاشها الكاتب -وأعتقد أن كثيراً من القُرَّاء كذلك- تدُلُّ على أن تصوُّر البعض بأن التعصب -كسلوك تربوي خاطيء- هو من إفرازات الانتماءات الفرعية للمذاهب والجماعات تصوُّر خاطيء ، وهو -في حقيقته- أثر من آثار طريقة قراءتنا وتحليلنا للظواهر الدعوية والاجتماعية التي تموج بها مُجتمعاتنا والمُتَّسِمة بالسطحية الشديدة التي تظهر آثارها في قصور الاستقراء ، والتعميم الخاطيء، والنظرة العَرَضيَّة -لا السببيَّة- لأمراضنا التربوية والسلوكية ..
نظرة أكثر عُمقاً للتعصب تكشف لك أن التعصب -في حقيقته- مرض تربوي قلبي يدفع العبد إلى الحَيْف والجَوْر ومُخالفة معايير الولاء والبراء وأحكامه في الشرع لأجل انتمائه الفرعي إلى وطن أو قبيلة أو شيخ أو مذهب أو جماعة ، بل إذا استبَدَّت فكرةٌ ما بالمرء -مما يخضع للاجتهاد- فوقع أسيراً لها ووالى وعادى عليها فقد وقع في التعصب المذموم ولكن لنفسه ولفكرته !!

والبعض قد يقع في التعصب المُضاد، وهو صورة من صور التعصب المعكوس واسعة الانتشار عند من يعتبرون أنفسهم مستقلين بُرءاء من التعصب ، يظهر في الحساسية المُفرطة للآراء والمواقف النابعة من أفراد أو اتجاهات بعينها ، بحيث تغيب -أو تقِلُّ- الموضوعية في مُناقشة آراء ومواقف تلك الاتجاهات ، وإذا كان التعصب هو مُبالغة في الولاء ، فالتعصب المعكوس هو مُبالغة في البراءة من آراء ومواقف الاتجاهات المُتَعصَّب ضدها ، مما يؤدي إلى غياب المِعيارية -نتيجة لشدة الحساسية- في نقد تلك الآراء والمواقف !!
وكم رأينا من أُناس يزعمون الحياد ازدوجت معاييرهم في نقد الاتجاهات المُختلفة حتى صار انحيازهم لأحدها وضد الأخرى كالشمس في رابعة النهار ، ورغم ذلك تجد منهم الإصرار على وصف أنفسهم بالحيادية لمجرد أنهم لا يرتدون ثوب إحدى الجماعات !!! ( راجع موقف الدكتور نصر فريد واصل والشيخ محمد حسان -مثلاً- من ما سُمِّي "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح" وكيف استقالوا منها لما اكتشفوا أن حياديتها مجرد غطاء لدعم اتجاهٍ بعينه !! ) ، ونفس المنطق ينسحب على كل من لا تسمع لهم صوتاً في الحديث عن آداب الاختلاف وفقهه ونبذ التعصب إلا إذا كان النقد مُوَجَّهاً لجماعة الإخوان !!!

أما إفساد الإخوان -ومن لف لفهم- لكل العلاقات -لا أقول الإسلامية- بل الإنسانية مع كل مخالف لموقف أو رأي سياسي يناقض تصورهم عن مصلحة جماعتهم من خلال الاتهامات بالخيانة والنفاق وما يُشبِه التكفير ، فتبحث عن كل هؤلاء الذين صَدَّعوك بآداب الاختلاف وذم التعصب فما تُحِسُّ منهم من أحد ، ولا تسمع لهم ركزاً !!!! وكأني بفقه الاختلاف عند هؤلاء هو فقه الاختلاف مع الإخوان !!

لذلك أقول : *إذا كان البعض في ممارسته للعمل الجماعي قد أساء للعمل الجماعي بالتعصب المقيت وعقد الولاء والبراء على الشعارات وال"يافطات" ، فالبعض -كذلك- قد ابتذل مفهوم الاستقلالية وشوهه حينما مارس استقلالية ال"يافطات" بينما مواقفه وممارساته كانت تجسيداً صارخاً للتعصب والتعصب المضاد كليهما !!!!

*وإذا كان التعصب -كما أسلفت- مرضاً تربوياً فإن علاجه -بالأساس- هو علاج تربوي عن طريق التربية على تجريد المُتابعة المُطلقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع التربية على فقه الاختلاف وآدابه بحيث يُفَرَّق بين مواطن الاتباع المُطلَق المُتفق عليها وبين ما يَحتمل تعدد الرؤى في التأويل ومن ثَمَّ يسوغ فيه الخلاف ، ويعالَج -كذلك- بتعميق معاني الولاء والبراء على أساس الكتاب والسنة، لا بإلغاء الجماعات والأحزاب إذ أن هذا علاج في الاتجاه الخطأ كمن أصابته نزلة معوية فتداوى باستئصال الأمعاء !! ( لاحظ أن عندنا سوابق مُشابهة في السيرة والتاريخ كالتعصب المذهبي -مثلاً- حيث دعا العلماء لعلاج التعصب ولم يدعوا لإلغاء المذاهب فتأمل !! ) ، ثم إن المَرضَ إذا لم يُعالج علاجاً تربوياً فسيظهر في صُوَرٍ أخرى كالتعصب للآراء الفردية ، والمشايخ والرموز ، بل والقبائل والعائلات .... إلخ ، أسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا ويصلح ذات بيننا ، ويخرجنا من الظلمات إلى النور ..... آمين