وقعة الحرة ومن يتحمل الدم؟!

  • 424

  فى سنة 62 من الهجرة، قدم وفد من المدينة على يزيد فأكرمهم وأجازهم بجوائز  سنية، ثم عادوا من عنده بالجوائز وخلعوه وأظهروا شتمه والعيب عليه ؛ فأرسل إليهم  النعمان بن بشير ينهاهم عما صنعوا , ويحذرهم غِبَّ ذلك , ويأمرهم بالرجوع والسمع والطاعة ولزوم الجماعة ومما قاله لهم : إن الفتنة وخيمة .. ولا طاقة لكم بأهل الشام. فقال له عبد الله بن مطيع ( داعية ابن الزبير) : ما يحملك يا نعمان، على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا ؟  فقال له النعمان : أما والله لكأنى بك وقد تركت تلك الأمور التى تدعو إليها , وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف , ودارت رحا الموت بين الفريقين , وكأنى بك قد ضربت جنب بغلتك إلىَّ , وخلفت هؤلاء المساكين (يعنى: الأنصار) يقتلون فى سككهم ومساجدهم وعلي أبواب دورهم" .
 
فعصاه الناس فلم يسمعوا منه؛ فانصرف وكان الأمر والله كما قال سواء . "البداية والنهاية"، ج 748/4.
 
 وهذا مما علمه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للأمة في قتال البغاة والخارجين أن يرسل إليهم من يعظهم ويذكرهم وجوب الطاعة، ويحذرهم من الخروج المسلح علي الأئمة وإن جاروا.
- وفى سنة 63 كانت وقعة الحرة وسببها ما قدمناه أن أهل المدينة خلعوا يزيدا, وولوا عبد الله بن مطيع على من حضر من قريش، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة . فلما كان أول هذه السنة أظهروا ذلك واجتمعوا عند المنبر، وجعل الرجل يقول : خلعت يزيدا كما خلعت عمامتى هذه.
- ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من المدينة , وإخراج بنى أمية من بين أظهرهم؛ فاجتمع بنو أمية فى دار مروان بن الحكم وأحاط بهم أهل المدينة , واعتزل الناس على بن الحسين وعبد الله بن عمرـ ولم يخلعا يزيدا!
 
تأمل مع أن يزيد هو قاتل أبيه الحسين  .. ولا أحد من أهل بيت ابن عمر , وقد قال لهم ابن عمر: " لا يخلعن أحد منكم يزيدا فتكون الفيصل بينى وبينكم " , وأنكر على أهل المدينة ذلك , وكذا لم يخلع يزيدا أحد من بنى عبدالمطلب , وكذا محمد ابن الحنفية رحمه الله لما جاءه دعاة الخروج فقالوا: إن يزيدا يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب، فقال محمد: ما رأيت منه ما تذكرون، قد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبا على الصلاة متحريا للخير، يسأل عن الفقه ملازما للسنة، قالوا : ذلك كان منه تصنعا لك.
قال : وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع ؟ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟! فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا، قالوا : إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه، فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال:"إلا من شهد بالحق وهم يعلمون"، ولست من أمركم في شيء .
قالوا:فلعلك تكره أن يتولي الأمر غيرك، فتحت نوليك أمرنا.
قال: ما أستحل القتال علي ما تريدونني عليه لا تابعا ولا متبوعا. قالوا:قد قاتلت مع أبيك.
قال:جيئوني بمثل أبي أقاتل علي مثل ما قاتل عليه.  قالوا فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا.
قال:لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاما تحض الناس فيه علي القتال. قال سبحان الله! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه؟! إذن ما نصحت لعباد الله. قالوا: نكرهك.
قال:إذن آمر الناس بتقوى الله وألا يرضوا المخلوق بسخط الخالق. وخرج إلي مكة . "البداية والنهاية8/233 ".
 
*استغاث بنو أمية المحاصرون بيزيد ؛ فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المرى(الذي سمّاه السلف مسرف بن عقبة ) في عشرة آلاف .
فقال له النعمان بن بشير : يا أمير المؤمنين ، ولّني عليهم أكفك . فقال يزيد :لا ، ليس لهم إلا هذا "الغشمشم" (وهو الذي يركب رأسه لا يثنيه شيئ عمّا يريد )، والله لأقتلنهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة .
فقال النعمان :يا أمير المؤمنين ، أنشدك الله في عشيرتك وأنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقال له عبدالله بن جعفر : أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك ، أتقبل منهم ؟ قال : "إن فعلوا فلا سبيل عليهم ".
وقال يزيد لمسلم : ادع القوم ثلاثا ، فإن رجعوا إلى الطاعة ، فاقبل منهم وكُف عنهم ، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم ، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثا ثم اكفف عن الناس ، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه وادن مجلسه؛ فإنه لم  يدخل  في شيء مما دخلوا فيه.
- فلما وصل مسلم المدينة قال له عبد الملك بن مروان:
إن كنت تريد النصر فانزل شرقي المدينة في الحرة ، فإذا خرجوا إليك كانت الشمس فى أقفيتكم وفى وجوههم , فادعهم إلى الطاعة فإن أجابوك وإلا فاستعن بالله وقاتلهم , فإن الله ناصرك عليهم إذ خالفوا الإمام وخرجوا عن الطاعة "..
 
فشكره مسلم على ذلك , وامتثل أمره , ودعا أهل المدينة ثلاثة أيام , كل ذلك يأبون إلا المحاربة والمقاتلة , فلما مضت الثلاث قال لهم فى اليوم الرابع :يا أهل المدينة مضت الثلاث , وإن أمير المؤمنين قال لى إنكم أصله وعشيرته , وإنه يكره إراقة دمائكم , وإنه أمرنى أن أؤجلكم ثلاثا وقد مضت فماذا أنتم صانعون ؟ أتسالمون أم تحاربون ؟  فقالوا : بل نحارب.
فوقع القتال , وانهزم أهل المدينة إليها , وقُتل من السادات والأعيان , وأباح مسلم الذى يقول فيه السلف : مسرف  – قبحه الله من شيخ سوء ما أجهلًه – المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد – لا جزاه الله خيرا – وقُتل خلق من أشرافها وقرائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها , ووقع شر عظيم وفساد عريض على ما ذكره غير واحد.
 
واختفى جماعة من الصحابة منهم جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدرى الذى ذكر هشام بن حسان أنه لجأ إلى غار فتبعه رجل من أهل الشام , فانتضى سيفه , وقصده الشامى يريد قتله فوضع سيفه فى غمده ثم قال له: " إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين "، فلما رأى ذلك قال : من أنت قال : أنا أبو سعيد الخدرى، قال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم، قال : فمضى وتركنى.
 وقتل فى هذه الوقعة حوالى عشرة آلاف من أهل المدينة غير انتهاب الدور والأموال، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
 
ماذا قال العلماء عن يزيد في هذه الوقعة؟
 
يقول ابن كثير رحمه الله معلقا على هذه الحادثة : " وقد أخطأ يزيد خطأً فاحشا فى قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام , وهذا خطأ كبير فاحش , مع ما انضم إلى ذلك من قتل خلق من الصحابة وأبنائهم , وقد تقدم أنه قتل الحسين وأصحابه على يدى عبيد الله بن زياد , وقد وقع فى هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة فى المدينة النبوية ما لا يُحد ولا يوصف مما لا يعلمه إلا الله عز وجل , وقد أراد بإرسال مسلم توطيد سلطانه وملكه ودوام أيامه من غير منازع , فعاقبه الله بنقيض قصده , وحال بينه وبين ما يشتهيه ,  فقصه الله قاصم الجبابرة , وأخذه أخذ عزيز مقتدر " كَذَ?لِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى? وَهِيَ ظَالِمَةٌ ? إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ " (هود: 102).
وقد روى البخارى فى "صحيحه" بسنده عن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع – ذاب وجرى – كما ينماع الملح فى الماء"، 
وروى الإمام أحمد بسنده عن السائب بن خلاد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله, وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا".
وقد استدل بهذا الحديث وأمثاله من ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الخلال وغيره وانتصر لها ابن الجوزي في مصنف مفرد وجوز لعنته.
ومنع من ذلك آخرون وصنفوا فيه أيضا لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى أبيه أو أحد من الصحابة, وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأوَّل وأخطأ, وقالوا: إنه كان مع ذلك إماما فاسقا, والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء, بل ولا يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة, ووقوع الهرج وسفك الدماء الحرام ونهب الأموال, وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن, وغير ذلك مما كل واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه كما جرى مما تقدم إلى يومنا هذا ..

- وأما ما يذكره بعض الناس من أن يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحِّرة من مسلم بن عقبة وجيشه فرح بذلك فرحا شديدا, فإنه كان يرى أنه الإمام وأنهم قد خرجوا عن طاعته, وأمَّروا عليهم غيره, فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة كما أنذرهم بذلك على لسان النعمان ومسلم كما تقدم, وقد جاء في الصحيح: "من جاءكم وأمركم جميع، يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان" ا.ه البداية والنهاية 4/ 758
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان-رضي الله عنه– ولم يدرك النبي -صلى الله عيه وسلم-؛ ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء؛ ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح، وكان من شبان المسلمين ، ولا كان كافرا ولا زنديقا؛وتولى بعد أبيه على كراهية من بعض المسلمين ورضا من بعضهم، وكان فيه شجاعة وكرم، ولم يكن مظهرا للفواحش، كما يحكي عنه خصومه، وجرت في إمارته أمور عظيمة" الفتاوي3/410
- وقال أيضا، بعد ذكره لما حدث في خلافته من قتل الحسين ووقعة الحرة وحصار جيشه لمكة: "وهذا من العدوان والظلم الذي فُعل بأمره. ولهذا كان الذي عليه معتقد أهل السنة وأئمة الأمة‏:‏ أنه لا يسب ولا يحب‏. ‏قال صالح ابن أحمد بن حنبل‏:‏ قلت لأبي‏:‏ إن قومًا يقولون‏:‏ إنهم يحبون يزيد‏.‏ قال‏:‏ يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر‏؟‏ فقلت‏:‏ يا أبت، فلماذا لا تلعنه‏؟‏ قال‏:‏ يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدا‏؟‏
 
وروى عنه‏:‏ قيل له‏:‏ أتكتب الحديث عن يزيد بن معاوية؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ ولا كرامة، أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل‏؟‏
 
فيزيد عند علماء أئمة المسلمين ملك من الملوك، لا يحبونه محبة الصالحين وأولياء الله، ولا يسبونه، فإنهم لا يحبون لعنة المسلم المعين؛ لما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا كان يدعى حمارا، وكان يكثر شرب الخمر، وكان كلما أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربه‏.‏ فقال رجل‏:‏ لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ "‏لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله‏)‏".‏
 
ومع هذا فطائفة من أهل السنة يجيزون لعنه؛ لأنهم يعتقدون أنه فعل من الظلم ما يجوز لعن فاعله‏.‏
 
وطائفة أخرى ترى محبته؛ لأنه مسلم تولى على عهد الصحابة، وبايعه الصحابة‏.‏ ويقولون‏:‏ لم يصح عنه ما نقل عنه، وكانت له محاسن أو كان مجتهدا فيما فعله‏.‏
 
والصواب هو ما عليه الأئمة‏:‏ من أنه لا يخص بمحبة ولا يلعن‏.‏ ومع هذا فإن كان فاسقًا أو ظالمًا فالله يغفر للفاسق والظالم، لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة‏.‏ وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ "(‏أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له"‏ وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنه‏.‏
فالواجب الاقتصار في ذلك والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به، فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة؛ فإنه بسبب ذلك اعتقد قوم من الجهال أن يزيد بن معاوية من الصحابة، وأنه من أكابر الصالحين وأئمة العدل، وهو خطأ بين‏. ) ا.ه مجموع الفتاوي3/412 .
- نخلص من هذا إلى أن العلماء حملوا يزيد دم وقعة الحرة لأنه أمر بهذه الاستباحة، ولم يأمروا الناس بالخروج عليه تجنبًا لمزيد من المفاسد كالذي قرأناه،وإنما سمعوا له وأطاعوا وجاهدوا الأعداء معه واجتمعوا معه في الجمعة والجماعة، وصبروا حتي يُستراح من فاجر أو مستراح  في عافية لأمة محمد –صلي الله عليه وسلم-.

- وأما ماذا فعل الله بيزيد وبمسلم بعد وقعة الحرة؟
يقول ابن كثير-رحمه الله-: "مات مسلم بن عقبة في أول المحرم سنة 64 من الهجرة . أي بعد الحرة بشهر وهو في مسيره لقتال ابن الزبير, ثم أتبعه الله بيزيد بن معاوية الذي مات بعده في ربيع الأول , فما متعهما الله بشيء مما رجوه وأملوه, بل قهرهم القاهر فوق عباده, وسلبهم الملك, ونزعه منهم من ينزع الملك ممن يشاء .. السابق 4/759
وقام بعده ابنه معاوية بن يزيد الذي كان ولي عهد أبيه ولم تطل مدته فقيل مكث فى الحكم أربعين يوما وكان مريضا ومات صغيرا وهو ابن عشرين سنة وقيل: وغير ذلك, ولم يعهد، فكانت الفتن والاضطرابات من بعده حتى قال القائل:
إنى أرى فتنة تغلي مراجلها ...  والملك بعد أبى ليلى لمن غلبا
 المرجع السابق.
وأبو ليلى هو معاوية بن يزيد, وقد حدث خروج الكثير في أكثر من مرحلة وإنا لله وإنا إليه راجعون.
قلت:قال ابن كثير ذلك مع أنه اعتذر عنه لشبهة التأويل لكنه لم يعتذر عنه في الإسراف في القتل واستباحة المدينة، وهذه عبرة لكل جبار! فإذا كان الله قد فعل بيزيد ذلك مع وجود الشبهة فما بالك بمن يقتل دون أن يبالي؟ لا شك أنه ينتظره قريبا جدا مصير الجبابرة ومصرع الظالمين كما قال -صلى الله عليه وسلم-:"إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته". نسأل الله السلامة والعافية.

قال القرطبي –رحمه الله -: "قوله تعالى: "وإذا بطشتم بطشتم جبارين" البطش السطوة والأخذ بالعنف وقد بطش به يبطش ويبطش بطشا. وباطشه مباطشة. وقال ابن عباس ومجاهد: البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط. ومعنى ذلك فعلتم ذلك ظلما. وقال مجاهد أيضا: هو ضرب بالسياط ؛ ورواه مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر فيما ذكر ابن العربي.  وقيل: هو القتل بالسيف في غير حق. حكاه يحيى بن سلام. وقال الكلبي والحسن:  هو القتل على الغضب من غير تثبت. وكله يرجع إلى قول ابن عباس. وقيل: إنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء. قال ابن العربي: ويؤيد ما قال مالك قول الله تعالى عن موسى: "فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض" (القصص: 19) وذلك أن موسى عليه السلام لم يسل عليه سيفا ولا طعنه برمح، وإنما وكزه وكانت منيته في وكزته. والبطش يكون باليد وأقله الوكز والدفع، ويليه السوط والعصا، ويليه الحديد، والكل مذموم إلا بحق. والآية نزلت خبرا عمن تقدم من الأمم، ووعظا من الله عز وجل لنا في مجانبة ذلك الفعل الذي ذمهم به وأنكره عليهم.

قلت: وهذه الأوصاف المذمومة قد صارت في كثير من هذه الأمة، لا سيما بالديار المصرية منذ وليتها البحرية؛ فيبطشون بالناس بالسوط والعصا في غير حق. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك يكون. كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا). وأخرج أبو دواد من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". وصححه الألباني "جبارين" قتالين. والجبار القتّال في غير حق. وكذلك قوله تعالى: "إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض" (القصص: 19) قاله الهروي. وقيل: الجبار المتسلط العاتي؛ ومنه قوله تعالى: "وما أنت عليهم بجبار" (ق: 45) أي بمسلط" .
التفسير 13/ 89
- بعد هذا العرض نقول: ليت أهل المدينة لم يخرجوا على يزيد، ويا ليتهم سمعوا لابن عمر وغيره لكن قدر الله وما شاء فعل؛ ليعتبر المسلمون في كل زمان ومكان والله المستعان.
 - يبقي بعض الأحكام الشرعية التي تتعلق بالدماء ومن يتحملها؟ نتكلم عنها-إن شاء الله تعالي –في المقال التالي.