الموقف الثالث: المشاركة في العملية السياسية ( خارطة الطريق )

  • 157

أما ثالث المواقف التي شنَّ البعض علينا غارة كبيرة بسببها فهو مشاركتنا السياسية في هذه الفترة ، ونحن بفضل الله عز وجل لم نبني مشاركتنا هذه على الهوى أو المحاباة لأحد ولا إعطاءً للمشروعية لباطل كما يزعم الزاعمون ، بل بنينا مشاركتنا هذه على قاعدة شرعية عظيمة وهى قاعدة تحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها.

 وقبل أن أدخل في بيان موجز لهذه القاعدة العظيمة أسوق هذا الكلام القيم للإمام ابن القيم –رحمه الله تعالى- حيث يقول (وإذا تأملت شرائع دينه التى وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة والراجحة بحسب الإمكان و إن تزاحمت قُدِّم أهمها وأجلها وإن فاتت أدناها ، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان وإن تزاحمت عُطِّل أعظمها فسادًا باحتمال أدناها ، وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالة عليه ، شاهدة له بكمال علمه ، وحكمته ، ولطفه بعباده ، وإحسانه إليهم ، وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق من الشريعة ، وارتضع من ثديها ، وورد من صفو حوضها ، وكلما كان تضلعه منها أعظم كان شهوده لمحاسنها أكمل ، ولا يمكن لأحد من الفقهاء أن يتكلم في مآخذ الأحكام وعللها والأوصاف المؤثرة فيها إلحاقاً وفرقًا إلا على هذه الطريقة ) أ.هـ مفتاح دار السعادة صـ350
 
فانظر رحمك الله إلى هذا الكلام الذي يغفل عنه الكثيرون ، الذي يبين أن الشريعة الغراء قائمة على جلب المصالح وتكميلها ، ودرء المفاسد وتقليلها ، فإذا تزاحمت المصالح قُدِّم أعلاها ولو بفوات أدناها ، يقوا ابن القيم أيضًا ( مبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما ، وتحصيا أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما ، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين ) زاد المعاد ، ويقول رحمه الله عن تعارض المصالح والمفاسد وكيف أنه يجب تقديم الراجح وترك المرجوح منها يقول ( من أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة أو المفسدة قُدِّم أرجحهما ) وبعد هذه النقول يجمل بنا أن نُعَرِّفُ المصلحة لغة واصطلاحًا :
 
المصلحة لغة : كالمنفعة وزنًا ومعنىً
 
المصلحة اصطلاحًا : عرَّفها الإمام محمد بن محمد الغزَّالي الشافعيُّ رحمه الله  بقوله
 
( أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة ، أو دفع مضرة ، ولسنا نعني بها ذلك ، فإن جلب المنفعة ، ودفع المضرة مقاصد الخلق ، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ، لكنَّا نعني بالمصلحة : المحافظة على مقصود الشرع ، ومقصود الشرع من الخلق خمسة ، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم ، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة ، وكل ما يُفَوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ، ودفعها مصلحة ) .
 
وتُقَسَّم المصلحة عند أهل العلم بحسب اعتبار الشارع لها وعدمه ثلاثة أقسام :
 
1-   المصلحة المعتبرة شرعًا : وهي المصالح التي شهد الشرع باعتبارها ، وقام الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس على طلبها ورعايتها ، كالصلاة .
 
2-   المصالح المُلغاة شرعًا : وهي المصالح التي لم يشهد الشرع باعتبارها ، بل بردِّها وإلغائها ، وقام الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس على النهي عنها وإهدارها ، كالمصلحة الموجودة في الخمر ، فهي مصلحة باعتبار نظر العبد القاصر ، بينما هي في نظر الشارع مفسدة ، ولذا نهى عنها وأهدرها .
 
3-   المصالح المُرسلة : وهي المصالح التي لم يَقُم دليل خاص من الشارع على اعتبارها أو إلغائها ، لكنَّها لم تخلُ من دليلٌ عام كليٍّ يدُلُّ عليها ، وسُمِّيت مرسلة ، لإرسالها ، أي إطلاقها عن دليل خاص يُقَيِّدها بالاعتبار أو الإلغاء. أ.هـ
 
وبناء على هذا الذي ذكرت آنفًا بنت الدعوة السلفية موقفها في المشاركة السياسية في هذه المرحلة ، بل المشاركة عمومًا ، وتفصيل ذلك على النحو التالي :
 
لمَّا حذرت الدعوة من العواقب الوخيمة التي ستترتب على سوء إدارة الدكتور مرسي ، وجماعة الإخوان ، فطرحت المبادرات ، وقدمت النصائح ولم يُسمع لشيء من ذلك فآلت الأمور إلى ما آلت إليه في 30 يونيو ، فنصحت الدعوة الدكتور مرسي لأن يدعو لانتخابات رئاسية مبكرة فقامت الدنيا علينا ولم تقعد ، مع أنه لو فعل لحافظ الإسلاميون على جُلِّ مكتسباتهم ، ولَجَنَّب البلاد الويلات ، ولَحُقِنَت الدماء ، وهذا أمر لا يماري فيه من عنده ذرة إنصاف ، وحسبك أن تعلم أن هذا الأمر أضحى مطلبًا للقوم بعد ذلك ولكن كان عزَّ مناله ، وفات أوانه تمامًا ، كالمبادرة التي طرحناها فرُفِضت ، ولم يأخذ بها مرسي إلا ليلة عزله أيضًا بعد فوات أوانها ، فلمَّا عُزِل مرسي وحدث ما حدث وأصبحنا أمام واقع في غاية الصعوبة وصلنا إليه عُيَرنا بسبب القراءة الخاطئة للواقع ، وعدم الاستجابة للنصح ، والرغبة بالاستحواذ والإقصاء فما كان من الدعوة إلا أن رأت أنه لابد من التعامل مع هذا الواقع في ضوء القواعد التالية :
 
1 -  القاعدة الأولى : تحقيق المصالح وتكميلها ، ودرء المفاسد وتقليلها .
 
إنقاذًا لما يُمكن إنقاذه ، حيث ضاق الأمر بعد أن كان واسعًا ، وأصبحت الخيارات محصورة فيما يلي :
 
1-   إما أن نعتزل المشهد برمته ، كما طالب بذلك البعض أسوة ببعض المشايخ ، وساعتها سيضيع كل شيء ، ونترك الساحة للعلمانيين والليبراليين واليساريين ليبلغوا مرادهم ، لاسيما وأن الظروف أمامهم مهيئة لذلك بعد فشل الإسلاميين .
 
2-   الدخول في مواجهة شاملة ، وصدام عنيف بدون مراعاة لموازين القوة والضعف ، أو اعتبارًا بالتاريخ ، وساعتها كان سيتكرر سيناريو الجزائر.
 
3-   المشاركة السياسية تحقيقًا لبعض المصالح ، ودرء بعض المفاسد
 
( كالحفاظ على مرجعية الشريعة والهوية الإسلامية للبلاد ) لاسيما وأن ذلك كان من أعظم أهداف الإسلاميين بعد ثورة يناير إن لم يكن أعظمها ، فضلًا عن المصالح الأخرى ( كالحفاظ على الدعوة .... وغير ذلك كثير ) .
 
فكان الخيار الثالث هو أرجح الخيارات لكونه الأقرب لقواعد الشريعة ومقاصدها ، والأوثق لمنهج النبي r وطريقته كما رأينا في صلح الحديبية ، حيث عقد النبي r هذا الصلح ووفَّي به على الرغم مما فيه من الشروط المجحفة ، كل ذلك تحقيقًا للمصالح ، ودرءًا للمفاسد ، وفي ذلك
 
يقول ابن القيم : ( ومنها أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيمٌ على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ، ودفع ما هو شرٌ منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما ) زاد المعاد ج3 صـ272 .
 
وليت شعري ماذا يقول المخالفون عن رد النبي r لأبي جندل للمشركين يقول صاحب الرحيق المختوم المباركفوري :
 
( وبينما الكتاب يُكتب إذ جاء أبو جندل بن سُهيل يرصُف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمي بنفسه بين ظهور المسلمين ، فقال سُهيل : هذا أول ما أُقاضيك عليه على أن تردَّه . فقال النبي  r : ( إنَّا لم نقض الكتاب بعد ) . فقال : فوالله إذًا لا أُقاضيك على شيء أبدًا ، فقال النبي r : (فأجزه لي) .
 
 قال : ما أنا بمجزه لك . قال : ( بلى فافعل ) ، قال : ما أنا بفاعل . وقد ضرب سُهيل أبا جندل في وجهه وأخذ بتلابيبه وجرَّه ، ليردَّه إلى المشركين ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أأردُ إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ فقال رسول الله  r ( يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا ، إنَّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا ، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم ) .أ.هـ
 
وعلى الرغم من كل هذا نزل القرآن يسمي هذا الصلح فتحًا
 
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) وفي بيان كونها فتحًا رغم ما فيها من الأمور الشديدة على نفوس الصحابة رضوان الله عليهم يقول ابن القيم ( ومنها : أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح ، فإن الناس أَمِنَ بعضهم بعضًا ، واختلط المسلمون بالكفار ، وبادؤوهم بالدعوة ، وأسمعوهم القرآن ، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين ، وظهر من كان مختفيًا بالإسلام ، ودخل في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل ، ولهذا سمَّاه الله فتحًا مبينًا .
 
قال ابن قتيبة : قضينا لك قضاءًا عظيمًا ، وقال مجاهد : هو ما قضى الله له بالحديبية .
 
وحقيقة الأمر : أن الفتح – في اللغة – فتح المُغلق والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مُغلقًا حتى فتحه الله ، وكان من أسباب فتحه صدُّ رسول الله r وأصحابه عن البيت ، وكان في الصورة الظاهرة ضيمًا وهضمًا للمسلمين ، وفي الباطن عزًا وفتحًا ونصرًا ، وكان رسول الله  r ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم ، والعز ، والنصر من وراء ستر الرقيق ، وكان يُعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط ، التي لم يتحملها أكثر الصحابة ورؤوسهم ، وهو  r يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب : وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) البقرة 216
 
ورُبَّما كانَ مكروهُ النُّفُوسِ إلى   ****   محبُوبِها سبَبًا ما مثلُهُ سبَبُ
 
فكان يدخل على تلك الشروط دخول واثقٍ بنصر الله له وتأييده ، وأن العاقبة له ، وأن تلك الشروط واحتمالها هو عين النصرة ، وهو من أكبر الجند الذي أقامه المشترطون ، ونصبوه لحربهم ، وهم لا يشعرون ، فذلُّوا من حيث طلبوا العز ، وقُهِروا من حيث أظهروا القدرة والفخر والغلبة ، وعزَّ رسول الله r وعساكر الإسلام من حيث انكسروا لله ، واحتملوا الضيم له وفيه ، فدار الدُّور ، وانعكس الأمر وانقلب العزُّ بالباطل ذلًا بحق ، وانقلبت الكسرة لله عزًّا بالله ، وظهرت حكمة الله وآياته ، وتصديق وعده ، ونصرة رسوله على أتمِّ الوجوه وأكملِها التي لا اقتراح للعقول وراءها ). أ.هـ زاد المعاد ج3 صـ274،275
 
 وحسبك أن تعلم أن الدستور كان مشتملًا في ديباجته على تنوع مصادر التشريع ، والدين لله والوطن للجميع ، ومدنية الدولة مما كان سينسف المادة الثانية ويجعلها كالعدم ، وكل هذا تم حذفه ، ولك أن تتخيل لواطلقت حرية الشعائر لغير المسلمين بدلًا من حصرها في أهل الكتاب مما كان سيفتح الباب على مصراعيه أمام النحل الكافرة ( كالبهائية والقديانية وعُبَّادِ الشيطان والإلحاد ، ...وغير ذلك ) وهذا غيض من فيض من المفاسد التي تم دفعها بفضل الله تعالى .
 
2 – أما القاعدة الثانية : التي على أساسها كان قرار المشاركة فهي قاعدة :
 
النظر في المآلات والتي تعني عدم الحكم على فعل من أفعال المُكَلَّف حتى ننظر إلى ما سيؤول إليه ، وهل سيجلب مفسدة أم مصلحة .
 
يقول الشاطبي – رحمه الله تعالى في الموافقات (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب ، أو لمفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه ، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية; فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها; فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية ، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة ) أ.هـ
 
وعليه نطرح هذا السؤال وعكسه فنقول :
 
 ماذا لو استجاب الإخوان لما دعاهم إليه حزب النور بدءًا من المبادرة ، أو الإنتخابات الرئاسية المبكرة ، أو المصالحة والدخول في العملية السياسية قبل فض رابعة ؟
 
أعتقد الإجابة واضحة وهي لو فعلوا لسَلِموا وسلِمت البلاد مما هي فيه الآن ، ولَحُقِنَت الدماء ، وقلت المفاسد .
 
وما هي المآلات التي كانت ستترتب على استجابتنا لما دعانا إليه البعض من عدم المشاركة ؟
 
الإجابة واضحة ، كانت ستدور العجلة بعيدًا عن الإسلاميين ، ويتمكن الليبراليون ، والعلمانيون من تحقيق حلمهم بعلمنة الدولة ، وطمس هويتها ، وتشويه الإسلاميين جميعًا ، والعمل على قطع كل جسور الصلة بينهم وبين الشعب دعويًا وسياسيًا وغير ذلك . ومن يتصور خلاف هذا فهو واهم لم يدرك الواقع ولم يعتبر بدروس التاريخ .
 
3 – القاعدة الثالثة : أما ثالث القواعد التي انبنى عليها موقف الدعوة في المشاركة هي قواعد تغيير المنكر ولو بتقليله في حال العجز عن إزالته تمامًا ، فالشريعة الإلهية قد جاءت بالأمر بالمعروف ، والسعي في إقامته على أحسن الوجوه وأكملها بحسب الإمكان وإلا فما لا يُدرك كُله لا يُترك جُله ، وبالنهي عن المنكر وإزالته بالكلية ، فإن لم نتمكن من ذلك فبتقليله وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم :
 
(  فَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ :
 
 الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ .
 
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ .
 
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ .
 
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ .
 
 فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ؛ فَإِذَا رَأَيْت أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفُسُوقِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ إنْكَارُك عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَمِ الْفِقْهِ وَالْبَصِيرَةِ إلَّا إذَا نَقَلْتَهُمْ مِنْهُ إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَرَمْيِ النُّشَّاب وَسِبَاقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَيْت الْفُسَّاقَ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى لَهْوٍ وَلَعِبٍ أَوْ سَمَاعِ مُكَاءً وَتَصْدِيَةٍ فَإِنْ نَقَلْتَهُمْ عَنْهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ، وَإِلَّا كَانَ تَرْكُهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ أَنْ تُفْرِغَهُمْ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ شَاغِلًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَكَمَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُشْتَغِلًا بِكُتُبِ الْمُجُونِ وَنَحْوِهَا وَخِفْت مِنْ نَقْلِهِ عَنْهَا انْتِقَالَهُ إلَى كُتُبِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالسِّحْرِ فَدَعْهُ وَكُتُبَهُ الْأُولَى، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ؛ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ يَقُولُ: مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصلاة، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ.) أ.هـ إعلام الموقعين عن رب العالمين ج3
 
*** بعض الشبهات والرد عليها ***
·       الشبهة الأولى :
1 -  شبهة الركون إلى الظالمين 
يزعم البعض أن المشاركة السياسية الآن هى من باب الركون إلى الذين ظلموا
وهذا استدلال باطل ومردود من وجوه :

أولاً : إن مراد الركون هو الميل إلى الظالم والانضمام إليه وموافقته على ذلك والرضا بما هو عليه من الظلم .
أما المشاركة لتخفيف الظلم ، وتقليله ، وتحقيق المصالح للمسلمين ، ودرء المفاسد فليست من الركون إلى الذين ظلموا بل هى داخلة تحت قاعدة (تحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد بتقليلها)

يقول شيخ الإسلام : (بل لو كانت الولاية غير واجبة وهى مشتملة على الظلم ومن تولاها أقام الظلم , حتى تولاها شخص قصده بذلك تخيف الظلم فيها , ودفع أكثره باحتمال أيسره كان ذلك حسنا مع هذه النية - أى نية تخفيف الظلم – وكان فعله لما يفعله من السيئات بنية دفع ما هو أشد منه جيدا ,وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد, فمن طلب منه ظالم إقرار ظلم وألزمه مالاً فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم ، وأخذ منه وأعطى الظالم ، مع اختياره ألا يظلم ودفع ذلك لو أمكن كان محسنًا ) أ .هـ

وفى هذا دلالة على أن محاولة دفع أكبر الضررين بارتكاب أدناهما ، ودفع الظلم الأكبر بارتكاب الأصغر ليس من باب الركون إلى الذين ظلموا .
 وهل تعتبر مشاركة يوسف عليه السلام في حكومة مصر ركونا إلى الذين ظلموا؟

إسمع ما يقوله شيخ الإسلام على ذلك يقول : ( ومن هذا الباب تولى يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر وقوله " اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِن الْأَرْض...." وكان هو وقومه كفارًا ومعلومٌ أنهم مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وآل بيته وولده , ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريده وهو ما يراه من دين الله ، والقوم لم يستجيبوا ، لكنه فعل الممكن من العدل ، والإحسان ، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يتمكن أن يناله بدون ذلك ، وهذا كله داخل في قوله تعالى " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ " فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما ولم يكن الأخر في هذه الحالة واجبا .

ثانيا : عقد النبي r الصلح في الحديبية مع المشركين بالشروط المجحفة وردَّ أبا جندل بن سهيل على إثر ذلك الصلح ولم يقل أحد أن هذا ركونًا إلى الذين ظلموا قال ابن القيم :  (فيه جواز الصلح مع المشركين ولو فيه ضيم إذا كان ذلك فيه مصلحة للمسلمين وسمى القرآن الصلح فتحًا ) ولأنه كما يقول ابن القيم هيأ الأجواء للدعوة فدخل الناس في دين الله أفواجا حتى دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعده بعشرة آلاف بدلا من ألف وأربعمائة في الحديبية .

ثالثا : لقد دخل النبي  r وبعض الصحابة في جوار بعض المشركين في مكة حتى قال النبي r في أساري بدر "لو كان المُطعَمِ بن عَدى حيا لأعطيته هؤلاء النتنى" جزاءًا لحمايته للنبي r وأصحابه في مكة فهل كان هذا ركونًا إلى الذين ظلموا

رابعا : إذا كانت المشاركة السياسية تعتبر ركونا إلى الذين ظلموا فيكون أول من ركن إلى الذين ظلموا الذين شاركوا في عهد مبارك وجلسوا مع عمر سليمان فترة الثورة وشاركوا بعد ذلك مع المجلس العسكري السابق وقد قتل الناس في العباسية ومحمد محمود وتكون مبادرة الجماعة الإسلامية كذلك واعترافهم بخطأ ما فعلوا وجلوسهم مع الأمن وقياداته من باب الركون إلى الذين ظلموا.

في ضوء ما مضى يتضح لنا أن هناك فرقًا بين من يميل إلى الظالم ، ويشاركه في ظلمه ، ويرضى عنه ، وبين من يشارك تحقيقًا لمصلحة ، ودرءًا لمفسدة ولا يقرُ الظلم ، ونحن بفضل الله قد استنكرنا كل صور سفك الدماء ، وطالبنا بمحاكماتٍ عادلةٍ لكل من سفك دمًا ، ثم شاركنا لتحقيق المصالح وأهمها الحفاظ على مرجعية مصر الإسلامية ، وهويتها ، وقد نجحنا بفضل الله في ذلك ، وكذلك الحفاظ على الدعوة وقد استفاد الجميع من سعينا في ذلك.
والحمد لله رب العالمين .
·       الشبهة الثانية :
 
2 - يزعم البعض أن حزب النور يتحمل مسئولية الدماء أو شارك فيها لكونه قد شارك في خارطة الطريق أو الدستور وهذه تهمة داحضة ومردودة من عدة وجوه :-
 
أولاً : إن مسئولية الدماء في رقبة واحد من أربعة :
 
أ – من أمر بالقتل .
 
ب – من باشر ذلك .
 
جـ - من تسبب في القتل .
 
د – من أقر القتل ورضي به .
 
ونحن لم نأمر بذلك بل نهينا عنه ولم نباشر ولم نتسبب بل حذرنا من كل ما يؤدي إلى ذلك حيث رفضنا الحشد والحشد المضاد من أول الأزمة ولم نقر ذلك ورفضنا التفويض في الدماء وأصدرنا البيانات (( قرابة أربعين بياناً )) نستنكر ونتبرأ من كل من سفك دماً بغير حق أو تسبب فيه أو رضي عنه .
 
ثانياً : أيكون مشاركًا في الدماء من رفض كل أنواع العنف والصدام عبر تاريخه ، ومنهجه واضحا في تعظيم حرمة الدماء وصيانة عرض المسلم ولذا قاوم الفكر التكفيري والصدامي بكل قوة عبر تاريخ الدعوة السلفية , ويُعفي من المسئولية من لا يقيم للدماء وزنا ، ويستهين بحرمات المسلمين ولذا خرجت الاتجاهات التكفيرية الصدامية من تحت عباءته لفساد منهجه وانحرافه كما هو معلوم من منهج الإخوان .
 
 ثالثا : كيف يكون مشاركا في الدماء من بذل الوسع لتجنب كل هذه الويلات فطرح المبادرات ، ونصح الإخوان ومرسي ولمِّا اشتدَّ الأمر نصح بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة وهذا الأمر لو استُجيب له لما سالت قطرة دم واحدة , ويُعفي من المسئولية من عاند ورفض كل هذه النصائح وأصرَّ علي مواصلة الأخطاء .
 
رابعًا : أيتحمل مسئولية ذلك من حظَّر من سيناريو الجزائر وذكر بالتجارب السابقة وكيف جلبت علي المسلمين الوبال؟
 
أم يتحمل ذلك من هيج الناس ودعاهم للنزول ولم يبال بشيء وراح يشعل الموقف بالتصريحات النارية مثل (الرش بالدماء – وهناك مائة ألف يبايعون علي الموت – والأطفال عندنا يصنعون المولوتوف – وسنفجر الثورة الإسلامية ....ونحو ذلك )
 
فلما وقعت الواقعة هربوا جميعا بزعم الحفاظ عليهم لإدارة المعركة , فهل ترك خالد الجيش في مؤتة وانسحب هو أم انسحب هو وجيشه ؟؟؟؟؟؟
 
خامسًا : من يتحمل المسئولية .
  من نصح بضرورة الحل السلمي أثناء اعتصام رابعة وسعي في ذلك لتجنب المواجهة حين قطع الدكتور ياسر الاعتكاف للوساطة والتدخل وقوبل بالرفض ؟ أم من رفض  كل المحاولات وأصرَّ علي خيار المواجهة بشهادة الشيخ حسان ومن معه من العلماء وذلك موجود بالصوت والصورة ، حيث يؤكد الشيخ علي أنَّ تحالف دعم الشرعية بقيادة الإخوان هو الذي رفض الصلح بعد أن رضوا بوساطته , بل صرَّح بذلك وزير الاستثمار الإخواني علي شاشة الجزيرة بأنهم رفضوا الخيار السلمي واختاروا الخيار الأخر بالإجماع وكانوا يعلمون ما فيه من الدماء.

من يري أنه كان الواجب صرف الناس بعد توارد الإشارات بل والمعلومات عن قرب وقت الفض أم الذي راح يجهز المستشفي الميداني من الليل ويعلم البعض كيفية عدد حصر القتلي مما يؤكد صحة ما قيل عن السعي لوقوع مجزرة يتم تسويقها عالميا ( وقد كان ) , ثم لمَّا بدء الفض راحوا يأمرون العُزَّل بالثبات , فمتى كان شرع الله يأمر الأعزل بالثبات أمام آلة الموت ؟
 
والعجيب أن الذين كانوا يأمرون الناس بالثبات من علي المنصة ثمَّ لمَّا اقترب الخطر منهم تركوا الميدان ثم لا يزال مُصِرَّا علي الزج بالشباب والنساء للعنف والمواجهة بدون أي مراعاة لأحكام الشريعة بل مخالفتها جهارا في قضايا التكفير والدماء وغيرها ولا حول ولا قوة إلا بالله .