وقفات ممطرة

  • 171

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ،،،

فإن المسلم الحصيف هو الذى يتلمس الدروس والعبر والعظات في كل موقف أو مشهد من مشاهد الكون الفسيح ، فلله عز وجل فى كل مشهد من المشاهد حكم عظيمة ، ومنن جزيلة علمها من علمها وجهلها من جهلها ، يظهر الله بعضها ويخفي بعضها لحكمة عنده سبحانه ، لعل قلباً يتعظ أونفساً تدكر،
والنبي صلى الله عليه وسلم كان في كل مشهد من تلك المشاهد المتعددة قدوة لنا في تعلق العبد بربه مع حرصه على صلاح العباد والبلاد ، يظهر ذلك في كلماته الجامعات صلى الله عليه وسلم فقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم .

وها نحن الآن نعيش في فصل الشتاء وتمطرنا السماء في الليل والنهار ، فهلا تدبرنا فى كلمات ومواقف النبى صلى الله عليه وسلم حال نزول الأمطار ..
فقد ورد فى الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْه وَسَلّم كان إذا رأى المطر قال :  " اللهمَّ صَيِّباً نافعاً ".
وورد أيضا فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال: (أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبينما النبي صلى  الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال يارسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى وقام ذلك الأعرابي أو قال غيره فقال يارسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهرا ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
وفي رواية قال : " اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر "  . قال : فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس).

- ففى الحديث الأول قال صلى الله عليه وسلم ( اللهم صيبا نافعا ) أى اجعله مطرا أو عطاءا نافعا ، فالصيب : هو المطر النازل أو العطاء ، ونافعا : أي نافعا للعباد، يقع على الأرض فتنبت به النباتات وينزل في جوفها فيسقي الناس منها فيما بعد.

فانظر رحمنى الله وإياك إلى ذلك القيد النبوى (نافعا ) ، لانه قد يكون هناك عطاء ينزل ولكنه لا ينفع ، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (  ليست السنة أن لا تمطروا لكن السنة أن تمطروا وتمطروا فلا تنبت الأرض شيئا ) فالنبى صلى الله عليه وسلم لم يجعل الجدب ( السنة ) هنا بعدم نزول المطر إنما جعله بضياع ما يترتب عليه من البركة والمنفعة .

فالوقفة هنا : ألا يتعلق الأفراد أوالجماعات بمجرد طلب العطاء الذى يتمنونه ، إنما يجب أن يكون التعلق بالعطاء الذى يرضى رب الأرض والسماوات و ينفع البلاد و العباد - وتأمل فى ذلك حكمة دعاء الإستخارة - .

ولنحذر من أن يكون سعينا لتحصيل ما نطلبه مرتبطا بمجرد الرغبة فى الحدوث أو الترأس و التملك و لو على جثث العباد وخراب البلاد ، لأن هذا والله هو عين الفساد، قال تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) .

- وفى الحديث الثانى : جاء الأعرابى إلى النبى صلى الله عليه وسلم خائفا على ماله وعياله فى حالين مختلفين حال الجدب وحال شدة المطر، والنبى صلى الله عليه وسلم فى الحالتين لم يخصه بتلبية طلبه الشخصى كما أرد الأعرابى ، بل نظر صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه صلاح المجموع ، ففى المرة الأولى دعا الله أن يغيثهم بالمطر على العموم نظرا لوجود الجدب فى المدينة وخارجها ، وفى المرة الثانية لم يستجب لرؤية الأعرابى بطلب منع المطر من أصله بل وجه النبي صلى الله عليه وسلم دعاءه إلى ما يدفع به المفسدة الحادثة ويجلب به المصلحة و الخير للجميع ، فسأل كشف المطر عن البيوت والمرافق والطرق بحيث لا يتضرر به ساكن فى مسكنه فقال : ( لا علينا ) ، وسأل بقاءه في مواضع الحاجة بحيث يبقى نفعه وخصبه فقال ( اللهم حوالينا... اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر ) بحيث يستفيد من ذلك عامة المسلمين ، وقد حدث ذلك فعلا حتى ظهر وسال الوادي قناة شهرا ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
والوقفة هنا : أنه لابد من التخلى عن النظرة الضيقة التى تتبنى تحقيق المصلحة الشخصية لفرد أو فصيل أو جماعة فقط ، و لابد من التحلى باتساع النظرة لتشمل بعين الاعتبار تحقيق المصلحة العامة لجموع المسلمين متابعة لسنة سيد المرسلين و بما يرضى رب العالمين.

وفى النهاية فهذه الوقفات  فيها من الإشارات ما نحتاجه فى بلادنا فى تلك الأوقات ،
فإن لم تعجبك وقفاتى ، فلا أقل من أن تعتبر زفراتى :

احفَظوها إِنَّ مِصراً إن تَضِع *** ضاعَ في الدُنيا تُراثُ المُسلِمينْ