واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت

  • 639

أظهرت الفتنة الأخيرة أزمة حقيقية في العمل الإسلامي بل والأمة كلها في مسائل عديدة؛ منها مسائل في المنهج كمسائل التكفير والدماء، ومنها مسائل في الدعوة والخطاب باسم الدين، ومنها مسائل في السلوك، وأحوال القلوب، وأمراضها التي هي أكبر أسباب الفتن، ومنها مسائل الأخلاق، وهي من أعظم المسائل أهمية؛ إذ هي مرآة القلب، ومن أعظم الأدعية في صلاح الخلق: قول النبي –صلى الله عليه وسلم- في دعاء استفتاح قيام الليل:  "واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت" (مسلم:771)

الأخلاق منها وهبي جِبلّي، يُفطر عليه الإنسان حسبما كان قبيحاً أو حسناً، ومنها كسبي عملي، يسعى إليه الإنسان بجهده، ويتخلق به؛ فييسر الله من شاء لما شاء، وكلا النوعين بيد الله، وهما من عطائه ورزقه، ورزق الإنسان في الأخلاق أهم وأخطر بكثير من رزقه في المال والجاه الدنيوي، والنوع الأول قابل للتأثير عليه والتغيير، وإن كان الأثر فيما يخالف ما جبل عليه الإنسان ليس كقوته فيما يوافق، لكن لو لم يكن التأثير لما كان هناك معنى لمدح حسن الخلق والتكليف به، وذم سوء الخلق والتحذير منه، وإن العبد لن يجد وسيلة لتحسين خلقه لا أعظم ولا أهم ولا أكبر أثراً ، من أن يلجأ إلى الله سائلاً إياه الهداية إلى أحسن الأخلاق؛ فإنه مقلب قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، وهو آخذ بنواصيهم، لا يقدرون على شيء إلا به سبحانه،

وكذلك أن يصرف عنه سيء الأخلاق؛ فإنه لا يصرف عن العبد سيئها إلا هو سبحانه، فهو الذي يلهم النفوس فجورها وتقواها؛ فيجعل في هذه النفس الفجور، وفي الأخرى التقوى، ولهذا كان هذا الدعاء العظيم، وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها" (مسلم:2722).

وتزكية العبد لنفسه لن تثمر ثمرتها إلا أن يزكيها الله نفسه، فتزكيته سبحانه وتعالى خير تزكية، فهو الولي والمولى سبحانه وبحمده.
وأنقل هنا ما كتبته في سورة يوسف في أحسن الأخلاق وهي أخلاق الرسل؛ تذكيراً لنفسي وأهلي وبنيي وأحبابي بها، عسانا نجتهد في حسن الخلق، ونسأل الله أن يهدينا إليه.

الصدق في القول والعمل مع الله ومع النفس ومع الناس، وترك الكذب بالكلية، والصبر واحتمال الأذى من الخلق والحلم عنهم، وكظم الغيظ، وكف الأذى باللسان واليد والقلب، وعدم الانتقام للنفس إلا أن تنتهك حرمات الله –تعالى-، والأناة والتمهل وعدم البطش والعجلة، والعِفة عن المحارم وعما في أيدي الناس وعن سؤالهم، واجتناب القبائح والفواحش وهي الأفعال والكلمات الفاحشة الظاهرة السوء خاصة ما يتعلق بالعورات كالشتائم ونحوها، وهذا بالقول وبالعمل، وفي الأموال والأعراض، كما كان يقول عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- في طوافه: " اللهم قني شح نفسي"

ويقول: "إذا وُقيتُ شح نفسي لم أسرق ولم أزنِ ولم أفعل المحرم؛ لأن كل ذلك مرده إلى عدم العفة والتطلع إلى ما في أيدي غيرك، والحياء والكرم والجود والسخاء، وترك البخل والغيبة والنميمة، وخيانة الأعين وهو يطلعها إلى ما لا يحل خلسة، والشجاعة، وعزة النفس، والبذل في الحق، والتضحية، والقوة في الحق، والاستعداد لبذل المحبوب الغالي على النفس وإخراجه ومفارقته عند أمر الله بذلك، والوفاء بالعقود والعهود والأمانات للأهل والأصدقاء والدين والصلة، والإحسان إلى الخلق، والعدل والتوسط في شيم النفس بين الإفراط والتفريط.

فالجود وسط بين التبذير والبخل، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والحياء وسط بين الوقاحة والعجز، والمهانة والخور، والحلم وسط بين الغضب والمهانة والذل وسقوط النفس.

والتواضع والعزة المحمودة وسط بين الكبر والهوان، والقناعة وسط بين الحرص والتكالب والتنافس على الدنيا وبين الخسة والمهانة، والصبر وسط بين الجزع والهلع والتسخط وبين القسوة والغلظة وتحجر الطبع والفظاظة، والرحمة وسط بين القسوة والضعف والجبن، وترك أوامر الله التي أمر فيها بأن لا تأخذ العباد رأفة في دين الله، وطلاقة الوجه والتبسم والبِشَر وسط بين العبوس والتقطيب وتصعير الخد، وإمالته تكبراً وعجباً وطي البِشَر عن الشر، دون الاسترسال في الضحك في كل موقف ومع كل أحد بما يؤدي إلى ذهاب الهيبة والوقار.

ومن الأخلاق الحسنة: الإيثار بالدنيا، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وسرعة العفو والصفح وقبول المعذرة، والمروءة في اللسان بحلاوة المنطق وطيبه ولينه، والمروءة في معاملة الخلق بسعة وانشراح الصدر في معاملتهم، وفي المال ببذله في مصارفه المحمودة شرعا، وفي الجاه ببذله للمحتاج إليه.
والقرب من الخلق بحيث يجدونه في أزمانهم ومشاكلهم، يحمل الكَّلَّ، ويُكسب المعدوم، ويُقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، ويُحسن إلى الخادم والمملوك، فضلاً عن الأهل والأقارب والجيران والمعاملين، يجالس المساكين، ويجيب الدعوة ولو إلى شيء يسير، ويمشي مع الأرملة والمسكين واليتيم في حوائجهم، يبدأ بالسلام من لقيه، خفيف على من صحبه، لا يكلف غيره مؤنته، هيناً ليناً سهلاً، يعود المريض ويشهد الجنائز ويرد السلام ويُشمت العاطس، وينصح السائل، ويعطي من حرمه ويصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه.

لا يتكبر ولا يحسد ولا يتعالى على الخلق، ولا يبغي ولا يغش ولا يتبع الشهوات ولا يخاصم لنفسه ولا يعاتب أحداً في حقها بل لله عز وجل ولا يجادل إلا بالتي هي أحسن، ولا يستقصي حقه، ويغض الطرف عن عيوب من أساء إليه فضلاً عمن سواه إلا لحق الله تعالى، ويتغافل عن عثرات الأهل والأصحاب والناس مع إشعارهم أنه لا يعلم لهم عثرة.

يوقر الكبير ويرحم الصغير ويأتي إلى الناس أفضل مما يحب أن يأتوه إليه، ويحسن عشرة كل من عاشره من أم وأب، وبنت وابن، وأخت وأخ، وقريب وجار، وامرأة وصاحب ومملوك، وكل من يعامله، فالله المستعان، وعليه التُكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونلحظ هنا مدى الارتباط بين حقائق التوحيد والإيمان وبين مبادئ الأخلاق والسلوك؛ فالدعاء بدأ بتقرير التوحيد والثناء على الله بملكه وألوهيته وربوبيته، ثم شمل اعتراف العبد بعبوديته، وهذا أفضل عمل يتوسل به مع معرفته بالله جل وعلا، يدعوه بمغفرة الذنوب والهداية لأحسن الأخلاق وصرف سيئها.

ولو واظب كل منا على هذا الدعاء يوميا مع استحضار معانيه في قلبه، وافتقر إلى الله الافتقار التام كما يتضمنه الدعاء، لحُلت مشكلة من أكبر مشاكل الالتزام الحقيقي وهي مشكلة تخلف الأخلاق والسلوك عن الالتزام الظاهري في الهيئة، أو الاكتفاء بمجرد إعلان الالتزام دون أن يتحول من الإعلان إلى تفاصيل يعيش بها المرء في حياته بدلاً من الأخلاق التي يعيش بها في جاهليته.
وهذه المسألة دالة بلا شك –عند وجودها- على نقص الإيمان؛ فإن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً"، فليس منهج أهل السنة مجرد قضايا فكرية يحسن الإنسان صياغتها والرد على المخالفين فيها، كما أن الالتزام بالسنة ليس مجرد شكل وهيئة يحافظ عليها الإنسان، بل الإيمان قول وعمل، عقيدة وسلوك.

وقد أدرك علماء الأمة مدى أهمية هذا الارتباط بين الإيمان والأخلاق، فوضعوا مختصرات عقائدهم مع أصول الإيمان، الأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن مساويها؛ فهم يرون وجوب بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران والمعاملين، ويأمرون بالصدق والعفاف والأمانة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتممها، مما هو معلوم في مختصرات العقيدة، ولنراجع على سبيل المثال لا الحصر: "العقيدة الواسطية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، وستجد الأمر واضحاً جلياً.