الدب يواجه النسر... الدنيا مصالح

  • 213

فجأة اشتعل الوضع في أوكرانيا، مظاهرات ، قتلى، صراع، محاصرة مبان حكومية، هروب رئيس جمهورية، حكومة مؤقتة ... إلخ، حتى الآن الأمر أشبه بما يحدث في الحقبة الجديدة، حقبة الثورات والتي من أجزائها الربيع العربي، لكن الجديد هو التدخل العسكري المباشر من دولة عظمى، تدخل البقاء السافر وليس مجرد قصف، ظاهره الرحمة والإنسانية، وباطنه مآرب أخرى، إنما تدخل يعلن (عيني عينك): جئت لأسيطر ، فما الذي حدث؟

هناك عدة وجهات لفهم ما حدث أولها: أن كل ذلك مجرد تمثيلية بين روسيا وأمريكا، وإن ذلك مجرد توزيع أدوار، العجيب أني سمعت قريبا من ذلك من شخصية "تكنوقراط سياسية"، نعم المؤامرات جزء من تاريخ السياسة البشرية مستمر ولن يغيب، لكن تفسير أي حدث على أنه مؤامرة هو توجه خائب، أما التفسير الثاني: وهو أكثر سذاجة وتفسير الحدث على طريقة "كيد العوازل" و "غيرة الضرة من ضرتها"، وهذا منحى أخذته بعض وسائل الإعلام المصرية في تناول الزيارة الناجحة التي قام بها وزيرا الدفاع والخارجية المصريَيْن لروسيا؛ فصور الأمر على هذا المنحى والدليل واضح فأمريكا من فرط غيظها (بتدبدب على الأرض وبتضرب رأسها في الحيط).

نعم مثل هذه المشاعر والأفعال قد نجدها في حياة الساسة مثلما حدث من السيدة زوج أوباما عندما انشغل بالحديث مع رئيسة الوزراء الأوربية بجانبه ثم أخذا صورة مشتركة معا، وكذلك عندما قذفت المرشحة لرئاسة الولايات المتحدة "مستقبلا" هيلاري كلينتون زوجها، وهو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق، بطبق أصابه جراء أفعاله (إياها) .. نعم الساسة هم مجرد بشر نجد الغيرة والغيظ والغضب لكن الدول خصوصا من الثلاث طبقات الأولى لا تتصرف وفق هذا المنطق، إنهم ليسوا زعماء قبائل "نيام نيام"، إنما هي مؤسسات تحكم وفق منطلق آخر يحجم المشاعر الإنسانية الغريزية البدائية كالغيرة، والغضب، والتنافس من أجل إثبات الذات، إنما هناك بديل عن ذلك بوصلة أساسية؛ إنها المصلحة وحسابات القوة وخطط الإرادة.

إن أي تحليل سياسي ناجح واحترافي لا بد أن يجرد الأحداث من التفاصيل الهامشية ويلخص الأمور جلية بوضعها في ثلاث مربعات تحت ثلاث عناوين "المصلحة – الإرادة - القوة".

إن الأمم تتحرك من أجل شيء واحد هو ما نراه مصلحة، هذه المصلحة قد تكون مادية أو معنوية، قد تكون سامية، وقد تكون من وجهة نظر أخرى وضيعة، والذي يعنينا هنا ليس وجهة نظر المحلل المفسر للمصلحة وتقييمها، إنما وجهة نظر الدولة صاحبة المصلحة؛ حيث تقسم كل دولة مصالحها على ثلاثة أقسام ودرجات:

مصلحة حيوية: لا يمكن تصور الدولة قائمة بعافية وسلام بدون المحافظة على هذا النوع من المصالح؛ مثل استمرار تدفق البترول لمصانع الغرب، واستمرار فتح الأسواق أمام المصانع الصينية، وحصول مصر على حصة كافية من مياه النيل، وتأمين الطريق البري المباشر الذي يربط بين كل من العراق وإيران وحزب الله في لبنان مروراً بسوريا، ولهذا السبب يرحل الشيعة ويضحون برجالاتهم من إيران والعراق ولبنان للقتال ضد أهل السنة بسوريا.

النوع الثاني من المصالح الهامة، وهي دون المصالح الحيوية في الاعتبار، وفوق المصالح التالية في الدرجات ألا وهي:
المصالح الثانوية .. ويمكن إضافة  نوع رابع وهي المصالح الهامشية.

إن الدول والأمم تبذل الغالي والرخيص؛ وذلك من أجل الحفاظ على المصالح الحيوية، وإذا هددت تلجأ الدولة بحسب قوتها إلى العديد من الوسائل؛ فإن كانت تملك القوة اللازمة لفرض الإرادة المحققة لمصلحتها مثل إجبار دولة أخرى على توقيع معاهدة استسلام، أو تحجيم قوتها العسكرية، أو تسليمها بطريقة أو بأخرى، ففي هذه الحالة ستجد قاعدة "تيمور لانك" قائمة (روستي راستي) = الحق هو القوة، وكمثال على ذلك ما يُعرف باسم "معاهدة فرساي" التي حجَّمت القوة العسكرية الألمانية وفرضت تعويضات عليها بعد الحرب العالمية الأولى، وكذلك "معاهدة استسلام اليابان" بعد استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقنبلتي هيروشيما ونجازاكي النوويتين (محدش يتكلم على حقوق الإنسان هنا).

وهذا بالضبط منطق روسيا الآن؛ فإن ما يعرف بشبه جزيرة القرم؛ والتي أهداها "نيكيتا خرشوف" الأوكراني الأصل السوفيتي القومية لموطنه الأصلي أوكرانيا، فإن شبه الجزيرة هذا قد حاولت روسيا القيصرية جاهدة قبل ذلك السيطرة عليه، ودخلت في حروب مع الدولة العثمانية من أجل ذلك حرب، وشارك حينها الجيش المصري فيها، بالإضافة إلى كل من إنجلترا وفرنسا. وجدير بالذكر أن شبه الجزيرة هذا له أهمية إستراتيجية للقوات المجرية الروسية التي يحدها شمالا المياه المثلجة، وطريقها الأساسي للمياه الدافئة، وهو الحلم القديم الجديد لروسيا والذي بسببه دخلت وغزت أفغانستان وهي تلعب الآن في ملعب جديد (وهو أوكرانيا)، وتحاول توظيف انقسام شعبها بين أهل القرم وأهل الشرق؛ حيث الكثير ممن يعتبرون أنفسهم روسيين، وأهل الغرب الذين يعتبرون أنفسهم جزءا من الشعب البولاندي.
وهو نفس الانقسام الذي يحاول الغرب توظيفه أيضا لصالحه؛ فالانقسام هو شرط نجاح التدخل الخارجي، حفظ الله مصر من شر الانقسام وأعاد لنا اللحمة الواحدة.

أما إذا عجزت الدول عن حفظ مصالحها الحيوية بقوتها؛ فإنها تلجا لأساليب أخرى مثل البحث عن حليف أو مقايضة المصالح الحيوية بما هو دونها من المصالح الهامة، أو الثانوية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، والقوة التي شاركت في دستور مصر الأخير استخدمت هذا الأسلوب للوصول لنوع من التوافق، وهذا باب شرحه يطول.

 خير الكلام: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:250).