الدنيا مصالح 2 ... تركيا بين الدب والنسر

  • 186

تكلمنا في المقالة السابقة في معرض الخلاف الروسي الغربي حول أوكرانيا، عن مفهوم مهم وحاسم في مجال العلاقات الدولية، ألا وهو "المصلحة"، وأوضحنا أن كل دولة تقسم مصالحها لعدة مستويات؛ وهو ما يمكن التعبير عنه بـ"مقياس ذي محطات ودرجات متعددة"، على سبيل المثال يمكن وصفه بثلاثة مستويات:(مصلحة حيوية،ومصلحة هامة،ومصلحة ثانوية أو هامشية).

وذكرنا أن الدول لا تتسامح في الخلافات التي تمس المحطات العليا في مدرج مصالحها، وهي تلجأ لعدة وسائل للمحافظة على هذا النوع من المصالح حسب قوة الدولة وضعفها من جهة، وحسب أفكارها السياسية والأيديولوجية من جهة أخرى، ويتم ذلك من خلال إطار حاكم ألا وهو "عاقبة الدفاع عن المصلحة على باقي المصالح"، بمعنى:"التضحية بالمصلحة الأدنى في سلم الأولويات مقابل المحافظة على المصلحة الأعلى"، وبالطبع هذا في حالة الجمع بين المصلحتين.

هذه الثلاثية (القوة، والأيديولوجية، والمال)هي الحاكمة للقرار السياسي الساعي لحفظ المصالح، وهي المحددة للقرار؛ حيث يتأرجح بين (القوة السافرة، والدبلوماسية الناعمة، والعقوبات الاقتصادية).

روسيا أخذت سبيل "القوة السافرة"، والغرب اختار "سياسة التلويح بالعقوبات" لدفع روسيا للعودة إلى طريق الدبلوماسية، وموقف روسيا التي تعتبر موانئ شبه جزيرة القرم بمثابة شريان حياة للأسطول في رحلته نحو البحر المتوسط قبل عقبة المضائق التركية "البسفور والدردنيل"، مقابل موقف الغرب الذي يريد التأثير على القدرات الروسية، موقف واضح مقابل آخر هو واضح أيضا ولا يحتاج إلى تحليل عميق، أما الموقف المعقد عن موقف تركيا وهو موقف سنستخدمه كمثال لمشكلة الحفاظ على المصالح بطريقة تتعارض مع مصالح أخرى.

شبه جزيرة القرم "عشرة آلاف ميل مربع يسكنها مليونا نسمة"، كانت جزءا من الدولة العثمانية، دخلت بسببها الحرب مع روسيا القيصرية وطلبت مساعدة مصر بعشرة آلاف جندي؛ فأرسلت لها مصر 15 ألف جندي حاربت معها ضد روسيا على شبه الجزيرة التي أغلب سكانها من التتار المسلمين يتحدثون لغتهم الخاصة، وظل الصراع عليها حتى عام 1774 حين فقدتها الدولة العثمانية، وفي عام 1783 أنشأت روسيا القيصرية أسطول البحر الأسود ومركزه ميناء "سيفاستوبول" على شبه الجزيرة، وبدأت عملية إحلال واستبدال للجنس الروسي الذي يحل محل التتار المسلمين، واستمر الحال حتى جاءت الإمبراطورية الروسية الماركسية المسماة بـ"الاتحاد السوفيتي"، واستمرت السياسة عشية الحرب العالمية الثانية، وكانت نسبة التتار المسلمين ما يقرب من 40% من عدد السكان، وهي نسبة أزعجت "ستالين" طاغية روسيا؛ فأخذ ذلك اليساري الماركسي في طرد مزيد من التتار المسلمين نحو مناطق أخرى من الاتحاد السوفيتي، وأحل محلهم الروس؛ وفي عهد خليفة "ستالين" "نيكيتاسير جيفيش خروتشوف" الأوكراني المولد،أعاد توطين جنسيات طُردت من شبه جزيرة القرم "الكل يمكن أن يعود" باستثناء المسلمين التتار، وفي عام 1954 أمر بنقل تبعية القرم من الجمهورية الاشتراكية السوفيتية الروسية إلى الجمهورية السوفيتية الأوكرانية كهدية!

ونظرا لأهمية القرم للروس (قياصرة، أو يساريين ماركسيين، أو جمهوريين، أو...ما يجدُّ مستقبلا)؛ فقد حافظوا على وجود عسكري بالقرم توّج بمعاهدة 2010 التي أجرت بمقتضاها أوكرانيا ميناء "سيفاستوبول" بالقرم لموسكو ليكون حتى 2024 تحت أمر الأسطول الروسي، وبحسب المثل العربي: "لا يغرنك عشاء ساكن قد توافي بالمنيات السحر"، جاءت الثورة الأوكرانية المدعومة من الغرب لتطيح بالرئيس المنتخب المدعوم من روسيا، لتهدد المصالح الروسية التي اعتمدت بيت الشعر العربي:

السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب

 لينشأ صراع بين روسيا والغرب يضع تركيا في مأزق، فمن ناحية تركيا لابد أن تكون في جانب الغرب، وتركيا قديما دخلت الحرب في القرم ضد روسيا القيصرية ودخلت حلف الناتو "حلف شمال الأطلنطي" لتكون ضد روسيا الماركسية، وهي تأوي المسلمين التتار المطرودين من القرم، وهم بالملايين في عدة محافظات تركية مثل "إسكي شهير، وأنقرة، وقوينة كانو" جل سكان القرم، والآن القرم 60% من الروس تقريبا، و25% تقريبا يعتبرون أوكرانيين أصليين، وفقط 10% تقريبا من التتار الصامدين المعادين لروسيا.

حرب في القديم وحلف عن قريب وأتراك تتار مطرودون وقوات روسية باتت قريبة (القرم على بعد 173 ميلا فقط من شواطئ الأناضول التركية)؛ إذن الأمر محسوم..لا! فهناك معاهدات واقتصاديات، وهناك اتفاقية "مونترو" عام 1936 التي تقيد حركة القوى التي لا تنتمي للبحر الأسود من خلال المضايق البحرية التركية (البسفور)، أما الأهم فهو "الاقتصاد"حيث إن تركيا تستورد 55% تقريبا من كل احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا، بالإضافة لـ12% من احتياجاتها من البترول؛ وهي نسب مرشحة للزيادة مع زيادة وقوة الاقتصاد والتصنيع التركي، إذن هي مصالح وإرادات تضاد مصالح وإرادات لنفس الدولة؛ ولعل هذا ما يفسر أن أردوغان الذي لا يتورع عن نقد القادة في العالم كله، واتخاذ مواقف سياسية فجة (تصريحاته بالنسبة للأحداث المصرية بعد 30/6)، أما إذا تعلق الأمر ببوتين فهو مثال للدبلوماسي الحذق.

إذن موقف تركيا ليس محدد الاتجاه مثل روسيا والغرب، فهي أشبه بمن يسير على جبل معلق؛ فالصدام وإن كان احتمالا بعيدا فهو أسوء سيناريو للمصالح التركية المتضادة، والحل الدبلوماسي بشرط ألا يخرج منه الروس بنصيب الأسد؛ هو أفضل حدث يقرب تلك المصالح المتباعدة، وقس على ذلك القوى المصرية، وهذا هو غرض مصر ومصالحها، وأترك القارئ ليصنف القوى المصرية واتجاهاتها ومصالحها، وهذا هو الغرض من هذه المقالة.

فيا قارئي العزيز، آخر الكلام: "كل أحد يستطيع أن يختار بين الشر والخير، والعاقل من يرجح خيرا من خيرين، والحكيم من يختار أهون الشرين".