السوقية ليست دعوة

  • 171

الدعوة الإسلامية دعوة ربانية في كل متعلقاتها، في أصلها ومصدرها، وفي طريقتها ووسائلها، وفي غايتها ومقصدها.

فلا يمكن أن تصل إلى غاية مشروعة بوسيلة غير مشروعة، ولا إلى ما يحبه الله من المقاصد بما لا يحبه الوسائل؛ ولذلك لزم الحفاظ على ربانية الدعوة من بدايتها لنهايتها.

وهذا يدخل دخولا أوليا في دعاء المسلم: "رضيت بالله ربًا".

2- الداعية في دعوته لا يمثل نفسه، ولا ينتصر لها، ولا يسعى لغايتها، بل لا يسعى إلا لرضا الله -عز وجل-، فهو أجيرٌ عند ربه في القيام بأمر الدعوة، لا يفعل في دعوته إلا ما يأمره به صاحب العمل.

واستحضار ذلك يجعل المسلم يتطبع بأخلاق الأنبياء في دعوته من اللين والرفق والصبر والحِلم، فيكون للناس رحمة كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم رحمة، وإن آذوه وعادوه وصدوه.

3- لذلك فإن الأصل في الدعوة هو اللين، مهما بلغ صدود المدعو، وعتوه وتجبره، وقد قال الله -تعالى- لموسى وهارون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، ولا يُؤثَر عن موسى وهارون -عليهما السلام- أنهما أساءا الأدب، أو تعديا في القول، بل حتى ما كان منهما من الشدة إنما هو البلاغ فحسب (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

وقد كان (فرعون) هو العقبة بين (موسى) و (بني إسرائيل)!

فلم يُمكن أن يصل إلى (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) إلا من خلال (فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً)؛

فلا يشترط أن يكون المخاطَب هو المقصود الأول من الدعوة... ربما مَن وَراءه.

4- بل إن الله عز وجل لما بين حال فرعون ما زاد على ذكر جُرمه وعاقبته فقال: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)، وقال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)،

مع أنه ادعى الربوبية والألوهية، وظلم وطغى، وأفسد في الأرض...

ومع ذلك يذكر الله حاله بهذا الأسلوب الرائق، لأنه ليس المقصودُ سبَّ فرعون؛ فإن الله لم يتعبدنا بذلك، وإنما المقصود بيان حاله بما يليق مع سمو الرسالة الربانية.

5- وعن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ يهودَ أتوا النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلم- فقالوا: السامُ عليكم، فقالتْ عائشةُ: عليكم، ولعَنكمُ اللهُ، وغضِب اللهُ عليكم. قال: "مَهلًا يا عائشةُ، عليكِ بالرِّفقِ، وإياكِ والعنفَ والفُحشَ". قالت: أو لم تسمعْ ما قالوا؟ قال: "أو لم تسمعي ما قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عليهم، فيُستَجابُ لي فيهِم، ولا يُستَجابُ لهم فيَّ" (متفق عليه).

فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- التجاوز في الرد، منافيًا للرفق، وداخلًا في العنف والفحش!

فما بالنا بمن يؤصل للفحش والعنف والفظاظة، بل والسب، ثم ينسبه للدين جهلًا؟!

6- وبعضهم يستدل بفعل أبي بكر -رضي الله عنه- لما قال كلمة شديدة لعروة بن مسعود الثقفي في صلح الحديبية، مع أن أبا بكر كان يكلم رجلًا له عليه يدٌ، وهو يعلم طبيعة من يكلم.

ثم كل ذلك على خلاف الأصل الذي كان عليه أبو بكر -رضي الله عنه- من الرحمة والرفق.

فالعجب ممن لا يعرف عن أبي بكر إلا هذا الموقف، وكأن أبا بكر كان سبابًا فحّاشًا، يتكلم بذلك ليل نهار، كحال من يستدلون بهذا الفعل الواحد على قبيح أفعالهم.

فأبو بكر -رضي الله عنه- قال كلمة شديدة مرةً واحدةً لرجل مشرك أساء الأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان لأبي بكر فضلٌ عليه، ولم يغيِّرْه ذلك عن كونِه أرحمَ الأمة بعد نبيِّها.

فكيف بمن يجعل هذه المرة هي الأصل، ويتناسى الرحمة التي كان عليها أبو بكر؟!

بل يخلط بينها وبين شدة عمر -رضي الله عنه- في مَزِيجٍ لم يُسبقْ إليه.

فلا هو قَنَعَ برحمةِ أبي بكر، ولا هو وقف عند شِدَّةِ عمر !

7- ثم إن اللغة العربية فيها متسعٌ لقاموس الناقد الفصيح بداية من النصح الرقيق مرورًا بالنقد اللاذع والتشديد والتعنيف، بل حتى التجريح، بما لا يخالف الأصل العام لأدب المسلم، ينهل منها كما يشاء!

فكيف بمن يترك كل هذا إلى عبارات سفلة الناس، مما لا يليق إلا بشذاذ الأفكار ولقطاء الأخلاق؟!

ومن ترك ذلك البحر المحيط، والفناء الفسيح، إلى قواميس الرعاع والسوقة، فهو إما لِعِيِّ لسانِه أو فسادِ قلبِه، ومن لم يسعْه ما وسع سلفُه فلا وسَّع الله عليه.

8- وأعجب من ذلك من يُلبس على الناس بحاله، فلا يكفيه ما هو عليه من سوء الخلق وفُحش القول وفظاظة الطبع، حتى ينسب ذلك للشرع، لأن الله شبه بعض الناس بالحيوان في صفة معينة فقال عن بعضهم: {كالكلب} وعن بعضهم: (كالحمار)، ثم يأتي من يستخدم هذه الألفاظ لإطلاقها على خصومه، حيث إنه لا فرق عنده بين التشبيه والسب! وهذه سوأة فكرية فوق كونها سوأة خلقية وأدبية.

9- ومن تأخذه حماستُه بعيدًا عن ضوابط الشرع، فيُفرط في السب باسم النقد، وفي الفُحش باسم الشدة، ولا يراعي ضبطَ ألفاظه ولا مآلاتِ كلامِه، بل يبحث عن مبرراتٍ لجوازِ فعلِه، لا ينبغي اتخاذه حاكمًا على فعل غيره، بل ينبغي الأخذ على يديه حتى لا يفسد ما يصلحه غيرُه.

وميزان الحكم على الأشخاص والجماعات لا يحسنه كل أحد، ومن لا يستطع أن يضبط طريقتَه فليس له أن يحكم على طرائق الناس!

10- والعجب ممن يُرسل مخالبَه فتُجَرّحَ الآخرين جاحدًا جهودَهم، ناكرًا أفضالَهم، وإن قيس بهم لم يُرَ له أثرٌ، ولم يُلحَظ له وزنٌ.

بل قصارى جهده أن يكون ضربًا من قعقعات الفارغين، وجَلَبَات البطّالين، وأباطيل الحالمين، وسمادير الواهمين!

وهو إن تكلم بما شاء من سخافاتٍ وسفاهاتٍ وبذاءاتٍ، فحسبُه أنه يُلَطّخُ بها صورتَه، لا صورة من يتسافه عليهم!

وعلاج هؤلاء ألا يُلتفت إليهم أصلًا، وقد قالت العربُ قديمًا (سفيه لم يجد مسافهًا).

وصدق من قال:

إذا لم يَزِدْ علمُ الفَتَى قلبَه هُدًى ... وسيرتَه عدلًا وأخلاقَه حُسْنـَا
فـبشِّـــره أن اللــه أولاه فتنـــة ... تُغَشِّـيه حِرمانًا وتُوسِعُـه حُزنَا
وحسبنا الله ونعم الوكيل