إياك أن تنهزم !

  • 175

في أحد لقاءات التواصل والحوار مع إخواننا قال أحدهم: إن أسباب قعود بعض الإخوة عن العمل الدعوى هو الشعور بالانهزامية. يشعر بأنه هزم وضاع منه كُل شيء، ولشدة الاختلاف في الواقع وقسوة الفتن لا يستطيع أن يواجه من يُخالفُه أو يجيب عن تساؤلات أو شبهات البعض.

وهذا -ولا شك- أصاب بعض إخواننا الذين لم يتواصلوا مع قيادات الدعوة للتعرف على حيثيات اتخاذ القرارات ومستندهم فيه. والبعض منهم لم يضبط عواطفه التي غالباً تعمى وتصم.

وكما ذكر أخونا الفاضل فهم بعض منا أحب، أقول لنفسي ولجميع إخواني: إياك أن تنهزم!

إياك ووساوس الشيطان التي يقذفها في نفسك بأن كل شيء ضاع وانتهى فعلامَ العمل وبذل الجهد؟ ولم العمل السياسي؟ بل استعدوا للسجون والاضطهاد.

إياك والوهن والضعف الذي يقعدك عن العمل؟
قال الله تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:173-175].
أي : يخوفكم الشيطان بأوليائه، فالأمر لا يعدو أن يكون وسوسة شيطان رجيم فلا تخافوهم بترك واجب أو فعل محرم، وأفردوني وحدي بالخوف بفعل طاعتي واجتناب معصيتي إن كنتم مؤمنين صادقين في إيمانكم.
فقالها الصحابة -رضي الله عنهم- مؤمنين بها فنصرهم الله بإلقاء الرعب في قلب أبى سفيان ومن معه من المشركين فرجعوا إلى مكة وكانوا قد عزموا على العودة إلى المدينة بعد غزوة أحد لاستئصال شأفة المسلمين.

وفى يوم أحد صرخ الشيطان : إن محمداً قد قتل. فاستقبلته بعض النفوس المؤمنة بانهزامية وضعف حتى أن منهم من ترك القتال وانصرف إلى المدينة، ومنهم من قعد عن القتال وتنحى جانباً، ومنهم من استسلم للقتل.

وهذا ولا شك -من هول الصدمة- وقد عفا الله عنهم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران:155].

لكن من الصحابة -رضي الله عنهم- من ثبته الله تعالى فثبت وقاتل مؤدياً واجبه، لما قيل له : إن الرسول قد مات. قال : قوموا فموتوا على ما مات عليه.

كما أن الابتلاء طبيعة الطريق إلى الله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)[الأنبياء:35].

وأن من أسباب الابتلاء بالضراء: الذنوب والمعاصي.

قال الله -تعالى- مبيناً أسباب التغيير الذي وقع يوم أحد: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)[آل عمران:152].
(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران:165].

ولا شك أن سبب الانهزامية التي أصيب بها البعض سببه توهم أن الدولة الإسلامية قد قامت، وأن فجر التعبد لله بحرية قد بزغ، وسيقام الدين، ويُدعى لله دون تضييق فلما سقط نظام محمد مرسى والإخوان ظن أن الإسلام قد ذهب، وأن أحلامه قد طاشت، وأن عصر الاستبداد والاضطهاد للدعاة والتضييق عليهم قد نزل.

وهذه في الحقيقة أوهام، فلم نجد من حكم الإخوان إقامة للدين، ولا سياسة للدنيا بالدين، بل وجدنا تحركات للتضييق على الدعاة السلفيين، وقانون نقابة الدعاة وسيطرة الإخوان على وزارة الأوقاف، وتسريب خيرت الشاطر عن استيلاء السلفيين على المساجد خير دليل على ذلك.

فلما غيًّروا ولم يقيموا دين الله تعالى في العباد غَيَّر الله تعالى بهم، كما قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد:11].

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال:53].

والوهم الثانى- أن بسقوط نظام الإخوان ضاع الإسلام، وضاعت الدعوة. فإن الإسلام لن يضيع، وهو ظاهر على الأديان ومنصور بعز عزيز أو بذل ذليل، وما الكارهون له إلا كمثل الوعل الأحمق الذي وصفه الأعشىٍ بقوله:

ناطح صخرة يوماً ليوهنها            فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

ومن ظن هذا الظن السيئ فليذهب ليشنق نفسه ثم ينظر هل قتله لنفسه أذهب ما يجده في نفسه من كره وإباء لنشر الدين، كما قال الله تعالى: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ (أي يربط حبلاً في سقف حجرته ويشنق نفسه) فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)[الحج:15].

والدعاة إلى الله تعالى يلتزمون بالمراحل الدعوية التي مرت بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قوة وضعفاً.

ففي حالة الاستضعاف للإسلام وأهله كانت الآيات آمرة بالصبر والعفو والصفح وكف الأيدي مع الاستمرار في الدعوة إلى الله تعالى وعبادته الله وتنزيهه وحمده حتى يأتيه الموت.

وفى حالة الظهور والقوة يُطلب العدو في عقر داره يُدعى إلى إحدى ثلاث : إما الإسلام فإن أبى فالجزية فإن أبى فالقتال حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً ليحى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.

فتبين من ذلك أنه من الوهم والفساد وسوء الظن هذه القالة من السوء التي تلفظ بها البعض ليهيج الناس -وخاصة الشباب- على النزول باسم الدفاع عن الدين ومواجهة الحرب عليه. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ومن أسباب انهزام البعض : ضعف الإيمان وضعف الأخذ بأسباب زيادته ومراعاته، والحذر من أسباب ضعفه.

فإن الإيمان به نجاة العبد وسعادته في الدنيا والآخرة، وهو يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والغفلة.

فالعبد المؤمن يأخذ بأسباب زيادة الإيمان في السراء والضراء ويحذر أن يتلبس بأسباب نقصانه، قال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»، فكل إنسان ساعٍ في طريقه إلى الآخرة، فإما أن يسعى في طاعة الله فيعتق نفسه من النار وإما أنه يسعى في معصية الله فيهلك نفسه ويوبقها في نار جهنم عياذاً بالله.

فلا شك أن قوة الإيمان بالله ووعده واليوم الأخر والقضاء والقدر وحسن الظن به -تعالى- يزيل هذه الوساوس الشيطانية، وتملأ القلب إيماناً وانشراحاً وثقة في وعد الله تعالى وتوكلاً عليه وتفويضاً لجميع الأمور إليه.

هذه الثقة التي تجعل العبد غنياً بالله مستغنياً عن غيره، عظيم الأمل في الله ووعده، عظيم التوكل على الله في نُصرة دينه، (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)، (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).

- وما أعظم الوصية الجامعة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك،واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان» رواه مسلم.

- احرص على ما ينفعك في أمر معاشك ومعادك ولا تتكاسل وتتعاجز فتفعل فعل العاجز المتكاسل؛ بل عليك بالحزم والجد،وإعطاء كل أمرٍ أُهبته، واعلم أن كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، وإن أخذت بالأسباب وبذلت الجهد فإياك أن تفتح باب التندم فإنه من فعل الشيطان، وقل : «قدّر الله وما شاء فعل».

* وعض بنواجذك على قوله –تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83].

وقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه: «الزم جماعة المسلمين وإمامهم». وهم أهل العلم المُتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله -صلّى الله عليه وسلم-، كما قال ابن مسعود-رضي الله عنه-: «إنما الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك».

فإن اشتبه عليك شيء فعليك بسؤال أهل العلم وأصحاب الشأن يُداوون شبهاتك.

والزم غرز إخوانك متعاونا معهم على البر والتقوى.

وإياك ووساوس الابتعاد، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.

وما تكرهه في الجماعة خير مما تحبه في الوحدة وكدر الجماعة خيرٌ من صفو الفرد.

نسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا ويُصلح ذات بيننا، آمين.