ما هكذا تورد الإبل يا أستاذ عبد الحليم

  • 239

لا يكاد يُشارك الأستاذ عبد الحليم قنديل رئيس تحرير جريدة صوت الأمة ذو التوجه القومي العربي في برنامج تلفزيوني دون أن يُثير مسألة خلط الدعوة بالسياسة، ويردد عبارته الشهيرة " الدعاة كالقضاة ".

ولكي نُقيّم هذه المسألة لابد من شرح المواد القانونية المُنظمة لها.

فقد نص البند الثالث من المادة السادسة من قانون الأحزاب السياسية رقم 40 لسنة 1977 وتعديلاته على أنه يُشترط فيمن ينتمي لعضوية أي حزب سياسي «ألا يكون من أعضاء الهيئات القضائية أو من ضباط أو أفراد القوات المسلحة أو الشرطة أو من أعضاء الرقابة الإدارية أو المخابرات العامة أو من أعضاء السلك السياسي أو القنصلي».

فهؤلاء ممنوعون من الانتماء للأحزاب السياسية مدة خدمتهم، كما أنهم – باستثناء أعضاء الهيئات القضائية و الدبلوماسيون– لا يُقيدون بقاعدة بيانات الناخبين مدة خدمتهم.

فقد نصت المادة الأولي من قانون مباشرة الحقوق السياسية رقم 73 لسنة 1956 وتعديلاته على مباشرة كل مصري ومصرية بلغ ثماني عشرة عاماً ميلادياً الحقوق السياسية الآتية :

-        إبداء الرأي في كل استفتاء ينص عليه الدستور.
-        انتخاب كلٍ من رئيس الجمهورية، أعضاء البرلمان، أعضاء المجالس الشعبية المحلية.

ثم نصت الفقرة الأخيرة على : «ويُعفى من أداء هذا الواجب ضباط وأفراد القوات المسلحة الرئيسية والفرعية والإضافية وضباط وأفراد هيئة الشرطة طوال مدة خدمتهم بالقوات المسلحة أو الشرطة».

وتستند هذه المادة إلي ظهير دستوري يتمثل في المادة 87 من التعديلات الدستورية لعام 2014 «ويجوز الإعفاء من أداء هذا الواجب في حالات محددة يبينها القانون».

فإذا كان الأستاذ عبد الحليم يريد مساواة الدعاة بأعضاء الهيئات القضائية والدبلوماسيين فهو إذن يريد حظر انتمائهم إلي أي حزب سياسي، مع بقاء قيدهم بقاعدة بيانات الناخبين وممارسة إبداء الرأي في الاستفتاءات والانتخابات، وترشحهم لهذه الانتخابات بعد الاستقالة من مناصبهم الرسمية.

وحقيقة هذه الدعوة هي مسألة فصل الدين عن السياسة بصيغة جديدة، وليته أكد على منع استخدام المنابر الدينية للدعاية الحزبية والانتخابية، أو منع الشعارات الدينية التي لا تتوافق مع الدستور، فهذه مسائل محل اتفاق، ونظمتها نصوص قانونية عديدة، منها :

-        البند سادساً من المادة 3 مكرراً (و) من قانون مباشرة الحقوق السياسية رقم 73 لسنة 1956 وتعديلاته.

-        المادة 3 مكرراً (ز) من ذات القانون.

-        المادة 3 مكرراً (ح) من ذات القانون، والتي ترتب على مخالفة قواعد الدعاية الانتخابية شطب اسم المرشح من قائمة المرشحين.

-        البند 2 من المادة 19 من قانون الانتخابات الرئاسية رقم 22 لسنة 2014 والتي يترتب على مخالفتها غرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تزيد عن مائتي ألف جنيه.

-        البند 2، 5 من المادة 11 من قانون مجلس الشعب رقم 38 لسنة  1972 وتعديلاته، والتي يترتب على مخالفتها الحبس لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.

فمجموع هذه النصوص يتضمن عقوبات الشطب والحبس والغرامة، فماذا يريد الأستاذ عبد الحليم بالدعاة بعد ذلك؟!

وهل يتساوى الدعاة مع القضاة والدبلوماسيون في الحصانة والميزات المادية والأدبية حتى يتساوون في منع الانتساب للأحزاب؟!

وهل تحتكر الدولة الدعوة كما تحتكر العدالة والعلاقات الدبلوماسية؟

وماذا عن تدخل الأجهزة الأمنية في شؤون الدعوة؟

وماذا عن المساجد الأهلية، والدعاة غير الرسميين؟

هل تسمح إمكانات الدولة باحتواء كل هذه الإشكاليات؟

أما عن مسألة فصل الدعوة عن السياسة فمما لا شك فيه أن طبيعة المسيحية تختلف عن الدين الإسلامي من حيث كونها عقيدة بلا شريعة شاملة (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله).

فالفصل بين الدين والسياسة عندهم يتفق وطبيعة دينهم.

أما الذين ينادون بذلك ممن ينتسبون للإسلام فيمكن تقسيمهم لفريقين :

- فريق يجهل طبيعة الإسلام كدين، وقد يكون حسن النية.

- وفريق معادي له -باطناً لا ظاهراً- يتستر بهذه الدعاوى الباطلة.

وقد اصطلح علماء الإسلام على تقسيم الشريعة إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

- الأحكام العقائدية.

- الأحكام التهذيبية.

- الأحكام العملية " الفقه ".

وأن الفقه يشتمل على :
- العبادات.
- المعاملات.
- أحكام الأسرة.
- السياسة الشرعية.

فالسياسة الشرعية التي تُعد نوعاً من أنواع الفقه الإسلامي، الذي هو قسم من أقسام الشريعة الإسلامية، هي الأحكام التي تُنظم الدولة، وعلاقتها بالأفراد، وعلاقتها بغيرها من الدول.

وسوف أسرد بعض الآيات التي توضح أن من يدعو لفصل الإسلام عن السياسة كمن يدعو لفصل الروح عن الجسد.

- قال الله تعالى : (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ ) سورة المائدة آية 49.

- (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) سورة النساء آية 65.

- (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) سورة الأحزاب آية 36.

- (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ) سورة البقرة آية 216.

- (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّـهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) سورة الحجرات آية 9.

- (وأمرهم شورى بينهم ) سورة الشورى آية 38.

- (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) سورة آل عمران آية 159.

- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) سورة البقرة آية 178.

- (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) سورة النساء آية 90.

- (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) سورة التوبة آية 4.

-  (وَإِن جَنَحوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَها وَتَوَكَّل عَلَى اللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ ) سورة الأنفال آية 61.

- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) سورة المائدة آية 1.

- (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) سورة محمد آية 4.

- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) سورة الحجرات آية 13.

هذه الآيات تتحدث عن الحكم والقتال والشورى والقِصاص والمواثيق والحياد والمعاهدات والسلام والوفاء بالعقود ومعاملة الأسرى والعلاقات الدولية، وقد جاءت في معظمها مُجملة وعامة ومُطلقة، لم تتعرض لتفصيلات وجزئيات المسائل، لإعطاء مرونة وصلاحية لكل زمان ومكان، دون الخروج على أحكامها، فكيف نفصل بينها وبين السياسة؟!!

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كانت بنو إسرائيلَ تسوسهم الأنبياءُ، كلما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ، وإنه لا نبيَّ بعدي ) متفق عليه.

فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة والسياسة معاً، ومن ذلك :

-  بناء دولة المدينة.
- المصالحة الوطنية بين الأنصار ثم الوحدة مع المهاجرين.
- إرساء الشورى.
- قيادة الجيوش، وبعث السرايا.
- إبرام المواثيق ومعاهدات الصلح والتحالف.
- تعيين القضاة.
- بعث المفاوضين.
- مخاطبة الملوك والزعماء.
- إرسال السفراء.
- تعيين الولاة....... إلخ.

بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم مارس السياسة بأخلاق الإسلام «السياسة الشرعية» (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم آية 5.

وقد سار على هذا النهج الخلفاء الراشدون فمن بعدهم إلى أن ظهرت دعوى فصل الإسلام عن السياسة بعد سقوط الدولة العثمانية.

إن دعوى فصل الإسلام عن السياسة في الأساس هدف استعماري، وثمرة من ثمرات التغريب الفكري للمسلمين، رغم أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية «الثيوقراطية» في المفهوم الغربي.

(قُل هـذِهِ سَبيلي أَدعو إِلَى اللَّـهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبحانَ اللَّـهِ وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ) سورة يوسف آية 108.