القلب السليم

  • 233

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فإن الله -سبحانه وتعالى- قد خوفنا وعيده،و أخبرنا بقرب الساعة، كما قال تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} (الأنبياء: 1).

وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقربها كذلك فقال: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وقرن بين السبابة والوسطى، وقال: {إن كادت لتسبقني}.

فهل أعددنا لهذه الساعة عدتها؟ وهل فررنا من وعيد الله عز وجل وخفنا عقابه؟ وقد أخبرنا الله عز وجل أن النجاة بين يديه سبحانه وتعالى بين يديه عز وجل يوم القيامة لا تكون إلا بسلام القلب، كما قال الخليل إبراهيم عليه السلام في دعائه: {ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء: 87-89).

فالحساب يوم القيامة على ما في القلب قال تعالى: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور} (العاديات: 9-10) فلا ينجو حينئذ إلا من كان صالحا في الدنيا.

وصلاح العبد في الدنيا واستقامته على طاعة الله لا يكون إلا بصلاح قلبه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه" وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كل وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".

إن إسلام القلوب لله عز وجل سبب لنجاة أصحابها يوم القيامة وصلاحيهم واستقامتهم في خاصة أنفسهم، فهو كذلك السبب في تمكين الله عز وجل للطائفة المؤمنة، فإن اله عز وجل يغير موازين الكون وسنته التي يسير عليها من أجل هذه الطائفة المؤمنة، فهي وإن كانت قليلة مستضعفة أو ليس لديها من أسباب القوة ما يحقق لها هذا التمكين؛ إلا أن الله عز وجل يتفضل عليها به لما يعلمه من سلامة قلوب أفرادها، كما تفضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالفتح المبين لما سلمت قلوبهم له "سبحانه".

قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (الفتح: 18،19).

وقد بين الله عز وجل أن الهزيمة في أحد كانت بسبب تسلل مرض حب الدنيا إلى قلوب بعض المؤمنين، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ? حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ )مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (آل عمران: 152).

وقد اشترط الله عز وجل للتمكين في الأرض عبادة من العبادات القلبية، قال تعالى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ )ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم 14)

وهكذا جعل الله عز وجل شرط التمكين للمؤمنين عبر العصور في الإيمان والعمل الصالح الذي لا يكون إلا بسلامة القلب.

قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (النور: 55).

فلو طهرت قلوب وسلمت من أمراضها لجاهد أصحابها في سبيل الله لإقامة العبودية له وحده، كما قال ربعي بن عامر: " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباد العباد إلى عبادة الله".

وإذا لاستحقوا -إن كانوا طائفة- نصرة اللله تعالى والتمكين في الأرض، قال تعالي: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 40، 41)

أما إذا كانت النفوس بعد لم تزك، والقلوب لم تصلح أوشكت الغايات أن تتبدل، والوسائل أن تنحرف.
فبدلا من أن يكون التمكين في الأرض وسيلة لإقامة العبودية لله عز وجل، صار غاية أو وسيلة لتحصيل حظوظ النفس أو الانتقام لها، وبدلا من أن تكون أهم الوسائل لهذا التمكين هي الحرص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الصغير قبل  الكبير، صارت الوسائل هي المداهنة أو التنازل عن مسلمات العقيدة؛ فأنى يمكن الله عز وجل لأمثال هؤلاء؟ ولو تمكنوا لما غيروا شيئا، ولصار الدين مجرد شعار أو طلاء يطلى به الباطل دون تغيير.

وبذلك يتضح أن طريق التمكين يبدأ من التربية على العقيدة الصافية عقيدة السلف رضوان الله عليهم، التي بها تصلح القلوب وتسلم من ادارتها، فتسلم قيادها الله وتتعلق بالدار الآخرة، فإذا تمكنت لم تر في كمالها وسعيها وما صنعته ما يصيبها بالعجب، بل تستقل سعيها في سبيل الله؛ لأن الله لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه، ولم تكن متعلقة بالدنيا أو برؤية الناس لها، فإن هذا أمر لا يحصل معه الخير، ولا يحصل مع المقصود من التمكين للمؤمنين.

الغرض المقصود أن سلامة القلب هي أول مات يجب على المكلف أن يحرص عليه إذ لا يكمل الإيمان ولا تصلح الأعمال إلا بسلامة القلب من الأمراض، التي كرهها الله، وأمر العباد أن يداووا أنفسهم منها، حتى لا تستفحل فتقضي على ما في القلوب من حياة وصحة.

أما إذ أهمل علاج هذه الأمراض المتأصلة في النفس، كما قال تعالى في وصف الإنسان: {إنه كان ظلوما جهولا} (الأحزاب: 72)، وقال: {وكان الإنسان قتورا} (الإسراء: 100)، نشأ عنها الشرك والعناد والنفاق والفساد في الأرض وغيرها من الأمراض المهلكة، والعياذ بالله. وكذا أمراض الكبر والعجب والغرور التي ينشز عنها تنافس الناس على هذه الدنيا، وما ينشأ عن ذلك من البلايا، كل ذلك بسبب أن الإنسان لم يداوِ نفسه من أدوائها، ولم يأخذ بالأسباب التي يصير قلبه بها سليما.