اللهم اجعلني مثلها

  • 336

ربما سمع الإنسان الآية والحديث وتأثر بها إعجابا من موقف أو حبا له وحديثا للنفس أن يكون كذلك ثم لا يلبث إذا جاء وقت التطبيق أن يصطدم بأرض الواقع – واقع النفس الإنسانية التي تميل إلى الكسل والتواني وتهرب من تحمل الهم والحزن والأذى وكذا المسئولية – وفي نفس الوقت تتمنى على الله الأماني بالمنازل العالية والدرجات الرفيعة، وقديما كان يستوقفني حديث عظيم ثبت في الصحيحين هو حديث الثلاثة الذين تكلموا في المهد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدا، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات.
فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغيّ يتمثل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه، فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال ما شأنكم؟ قالوا زنيت بهذه البغي فولدت منك، قال أين الصبي فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب؟ قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا.
وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت: أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع .

فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فيه فجعل يمصها. قال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت: أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها. فهنالك تراجعا الحديث فقالت: مر رجل حسن الهيئة، فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذلك الرجل كان جبارا فقلت اللهم لا تجعلني مثله وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها" متفق عليه.

كنت أتأمل في هذا الحديث أن الشيء المشترك في القصص الثلاثة التي أجرى الله فيها هذه الكرامة الخارقة للعادة، التي لم تقع في تاريخ البشرية عبر مئات الألوف من السنين إلا مرات معدودة.. أنها وقعت كلها تبرئة من الله تعالى لأولياء من أوليائه، اتهموا بالزور والبهتان بما هم أبرياء منه.
أما شأن مريم عليها السلام، فشأن عظيم وبراءتها نشرها الله في العالمين لأجل عرض نبي الله عيسى عليه السلام، أحدُ أولي العزم من الرسل، ومخلصة جريج أذاع الله براءته على رؤوس بني إسرائيل بعد دفعهم الحسد إلى تمنى غواية العابد الزاهد - الذي لا ينافسهم في دنياهم - من أجل ألا يتعالى عليهم في ظنهم وأن لا يشعروا في داخل نفوسهم المريضة بألم ناشئ عن تصور إمكانية التخلص من أمراضهم وذنوبهم، ولكي يكون مبرر الاستمرار في مستنقع الانحطاط هو أن الجميع كذلك، لم ينج منهم أحد ولا حتى جريج.

أما قصة الجبار والجارية فهي عندي أعجب، فهي جارية مجهولة في زمن مجهول وبلد مجهولة لا يعلم الناس تفاصيلها، وأنطق الله الرضيع مع أمه بالدعاء أن لا يكون كالجبار وأن يجعله الله مثل الجارية المظلومة، ولم يظهر للناس هذه الكرامة ولا ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم توقفوا عن ضربها وسبها، ومع ذلك فشأنها عند الله عظيم، يكفيها شرفا أنها قرينة مريم عليها السلام وجريج العابد، ونفس الإنسان لا تكاد تحتمل الاتهام الباطل والأذى، بل تتمنى سرعة زواله. أما أن يستطيع الإنسان أن يدعو صادقا "اللهم اجعلني مثلها" فهذا فوق الطاقة إلا من أقدر الله عليه.
فهل نستطيع أن تكون طالبين لمثل هذا، لرفعة الدرجات وتكفير السيئات ونيل الحسنات بالصبر والتوكل واليقين، وشرف التشبه بهؤلاء الأولياء؟
الأماني سهلة أما الواقع فمن أصعب ما يكون، وإذا كان من الصعب الاحتمال للأذى فكيف بطلبه؟

لا أجد من نفسي قدرة على أن أدعو صادقا "اللهم اجعلني مثلها"، وحسبي أن أسال الله اليقين والعافية، ولكن لنعلم درجاتنا وأين نحن في مسائل المتسابقين إلى الله، وحسبي الله ونعم الوكيل.