جذور اختلاف الإسلاميين في أحداث (30-6) وما تعلق بها

  • 234

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد تباينت مواقف التيارات والجماعات الإسلامية المختلفة في أحداث "30/6" وما تعلق بها؛ بيْن مصادمٍ لمجتمعه متوافق مع جماعة الإخوان المسلمين، وبين معتزل للأحداث كلها، وبين منحاز لمجتمعه مشتبك مع قضاياه ساعٍ في إصلاحه قدر المستطاع.
 
والمتابع للشأن الإسلامي أو المصري يسمع كل يوم عن تيارات وجماعات.. فيسمع عن جماعة الإخوان المسلمين، والجهاديين والتكفيريين، والقطبيين والسروريين، والجماعة الإسلامية، ويسمع في المقابل عن السلفيين؛ فيسمع عن "الدعوة السلفية"، والسلفيين الفرديين، وجماعة أنصار السنة، وسلفيي القاهرة الفرديين، ويسمع كذلك عن بعض الشباب السلفي المستقل، فالساحة المصرية غنية بالتيارات والمناهج والأفكار؛ صالحها وطالحها.
 
* وقد يتساءل البعض عن سبب اختلاف الإسلاميين واختلاف مواقفهم!
وللجواب عن ذلك: دعونا نتتبع مواقف هذه التيارات والجماعات، ونسبر أغوارها؛ حتى ندرك جذور هذه الخلافات، والتي سنفاجأ بأنها خلافات قديمة، وأن الجميع تقريبًا متوافق مع أصوله وخياراته السابقة.
 
الجذور الفكرية للخلاف بين الإسلاميين:

يمكن أن تقسَّم التيارات الإسلامية في مصر مِن حيث المرجعية الفكرية إلى تيارين كبيرين:
الأول: تيار مرجعيته الأستاذ "سيد قطب" رحمه الله.
والثاني: تيار مرجعيته شيخ الإسلام "ابن تيمية" رحمه الله.

 
- تيار سيد قطب: "التيار القطبي وروافده":

كان لبروز "سيد قطب" ولكتاباته الأثر الكبير في توجُّه شريحة مِن التيار الإسلامي للمفاصلة مع مجتمعاتهم؛ ومِن ثَمَّ الصدام معها، فملخص فكر "سيد قطب" هو أنه يرى أن مجتمعاتنا المعاصرة مجتمعات جاهلية ينبغي الصدام معها ومفاصلتها دون حساب للتبعات! فما عليك إلا أن تعمد إلى ذلك الصدام، وسينزل عليك نصر الله في يوم ما!
وقد التمس بعضهم العذر لـ"سيد" - رحمه الله - في أنه لم يضبط عباراته بالمصطلحات الشرعية؛ لأنه كان أديبًا أكثر منه عالمًا، ويحمِّل بعضهم "سيد" كل ما أصاب الأوطان مِن صدامات ودماء مستدلين على ذلك بثمار دعوة "سيد قطب" وتلامذته.
 
ويسعك أن ترسم دائرة، وتكتب فيها "سيد قطب"، ثم تخرج منها الأسهم الآتية:
 
1- شكري مصطفى: تلميذ سيد قطب المباشِر، وزعيم تنظيم التكفير والهجرة، وكان أوضح بكثير من سيد قطب، وبعبارات صريحة في تكفير المجتمع، وأنه مجتمع كافر، وجماعة التكفير جماعة متشظية سريعة الانقسام؛ لذلك هم موجودون عشرات في بعض المحافظات، إلا أنهم بضعة آلاف في شمال سيناء.

2- التيار الجهادي: وهم يرون أنهم الورثة الشرعيون لفكر "سيد قطب" والأوفياء لمنهجه، ولا يصير الجهادي جهاديًّا إلا بعد دراسة كتاب: "معالم في الطريق" لسيد قطب، والذي يحتوي على خلاصة فكره.

3- "مجموعة 65": وهي المجموعة التي سُجنت مع "سيد" في محنته من الإخوان المسلمين والتي تشربت فكره ومنهجه، وخاضت صراعًا عنيفًا مع التيار "البناوي" بالجماعة حتى استطاعت إقصاءه، وسيطرت على مقاليد الأمور بالجماعة، ووضعت منهجها التربوي والفكري الذي أفرز لنا ما نراه من سلوكيات يندى لها الجبين، ورغبة محمومة في الانتقام من مجتمعهم، وهم الذين قادوا الجماعة بعد وصولها للسلطة، واصطدموا بها مع كل مؤسسات الدولة وكل القوى السياسية، وهم الذين يقودون الجماعة الآن في صدامها مع الدولة بعد فقد الجماعة للحكم.

4- محمد قطب: الأخ الأصغر لسيد قطب، والذي له دور كبير في نشر فكر سيد قطب، وتنسب له التيارات القطبية ورموزها، وما "الجبهة السلفية" إلا امتداد لتلك الجهود "والجبهة السلفية: مجموعة من الشباب القطبي مِن المنصورة، يقدَّر أتباعها بالعشرات؛ فلا هي جبهة، ولا هي سلفية!".

وكان لمحمد قطب كذلك أثر كبير في ظهور "التيار السروري"، وهو مزيج من الدعاة السلفيين والقطبيين سواء بالسعودية أو قطر أو الكويت، وفرعهم داخل مصر، ويميلون إلى التماهي مع جماعة الإخوان المسلمين حيث تحالفوا معها في كل الاستحقاقات الانتخابية مثل: "حزب الإصلاح"، ومِن رموز التيار السروري في مصر: د."هشام عقدة" بدمنهور، ود."محمد يسري إبراهيم" بالقاهرة، وأحمد فهمي المقيم بالسعودية وهو عضو الهيئة العليا بحزب الإصلاح.

وقد فشل التيار السروري في إيجاد عمل منظم له انتشار، وإن كان له بعض التواجد في مركز دمنهور، وخلاصة فكر محمد قطب هو إعادة لترديد كلمات سيد قطب؛ إلا أنه صرَّح بأن الناس ثلاثة أصناف: (مؤمن معلوم الإيمان، وكافر معلوم الكفر، وكتلة مجهولة الحكم أو متميعة لا يشغلون أنفسهم بالحكم عليها)، وحقيقة هذا عدم الحكم بالإيمان ولا بالكفر.

5- عبد المجيد الشاذلي: وهو عضو أسرة سيد قطب، ورفيق زنزانته ومحاكمته، وهو رأس جماعة "التوقف والتبيُّن"، ويرى كذلك أن الناس ثلاثة أقسام: مؤمن، وكافر، ومجهول الحكم "موضع لوث يُتوقف فيه" لا يحكم له بالإسلام حتى يُختبَر في الحكم، والولاية، والنسك! وجماعة التوقف والتبين غير منتشرة؛ إلا أنها تقدر ببضعة آلاف في شمال سيناء.
 
إذن فتلك الجماعات مِن إخوان مسلمين، وسروريين، وقطبيين (كالجبهة السلفية)، وتوقف وتبين، وجهاديين، وتكفيريين... موقفهم من الأحداث وانجرافهم نحو الصدام مع المجتمع ليس مفاجئًا، بل هو متوافق تمامًا مع المرجعية الفكرية لهم، فقد خرجت كلها مِن نفس المصدر، وإن كان هناك فارق في أحجام تلك الجماعات وانتشارها؛ فالإخوان المسلمون يمثلون غالب التيار القطبي في مصر.
 
تيار ابن تيمية -رحمه الله- "التيار السلفي":

ابن تيمية -رحمه الله- هو علامة فارقة في تاريخ المسلمين؛ فقد أحيا منهج أهل السنة والجماعة وأزال عنه الغبار، وأوضح معالمه ونشر أصوله، وأكد لتلاميذه أن أهل السنة يعرفون الحق ويرحمون الخلق، وقد حارب بدع التكفير والإرجاء، وسائر أنواع البدع، وعاش في ظروف غاية في الصعوبة، ورغم ذلك ضبط قضايا الإيمان والكفر، ورسم لمن خلفه طريقًا آمنًا يضيئه نور الوحي.
 
ويسعك أن ترسم دائرة وتكتب بها "ابن تيمية"، وتخرج منها الآتي:
 
1- الدعوة السلفية: وهي أكبر الكيانات الإسلامية العاملة في مصر، والتي تمارس العمل الجماعي منذ ثمانينات القرن الماضي، ولها منهجها الفكري المتكامل التي ربت عليه أبناءها، ولها مجلس شورى يضم رموزها بكل محافظات الجمهورية، ولها مجلس إدارة قائم على شئونها، وتنتهج الدعوة السلمية طريقًا لها، وترى أن رسالتها هي تعبيد الناس لرب العالمين "عبودية فرد، وعبودية أمة"، وهي تختلف عن الإخوان المسلمين في كونها جماعة غير معسكرة، وليس عندها بيعة، ومنهجها هو منهج أهل السنة والجماعة.
وأيضًا ليس لها ارتباطات إقليمية ودولية كما هو الحال عند جماعة الإخوان المسلمين، وكان "نظام مبارك" يحول دون تحولها لجمعية رسمية؛ إلا أنها بعد الثورة وزوال السلطة الدكتاتورية استطاعت أن توفق أوضاعها، وتتحول لجمعية رسمية.

2- أنصار السنة: وهي جمعية خيرية تنتهج منهج أهل السنة والجماعة، وقائمة على إدارة العديد من المساجد والأنشطة الخدمية، ولها أثر في محاربة بدع القبور، وغيرها، وليس لها إطار تنظيمي محكم، وهناك تنامٍ للتيار المدخلي بها.

3- السلفيون الفرديون: وهم بعض علماء الحديث والدعاة ممن اشتهروا بعد انتشار القنوات الإسلامية، وهؤلاء لم ينشئوا كيانًا، ولم يسعوا لذلك، بل بعضهم يرى أن العمل الجماعي بدعة، والبعض الآخر لا يمارسه بصورة عملية، وإن كان لهم فضل في انتشار السمت الإسلامي، ومعاني الالتزام بالدين بشكل عام.

4- بعض الشباب السلفي المستقل مِن طلبة العلم: ممن يتبنى منهج أهل السنة والجماعة، ويتفق مع المشايخ الفرديين في عدم ممارسة العمل الجماعي؛ إلا أنهم يفتقدون الأثر الدعوي الواضح والمؤثر، ويكتفون في مجملهم بالتواجد في العالم الافتراضي.

5- سلفيو القاهرة الفرديون: لا يأخذون بالعمل الجماعي، ولم ينجحوا في إنشاء كيان، ويختلفون عن غيرهم من المشايخ الفرديين السابقين في أنهم ليس لهم الأثر الدعوي كسابقيهم، وأنهم يميلون نحو الفكر القطبي والسروري بما يحملانه من جرأة على التكفير وتسرع فيه بالظن، والذي ظهر جليًّا أثناء وبعد تلك الأحداث.

والحقيقة: إن معظم التيارات السلفية تنتهج الدعوة السلمية، وتنبذ العنف، وتتجنب الصدام مع الأنظمة (إلا ما حدث في الفتنة الأخيرة)، وترى أن أولى أولوياتها هي إيجاد الشخصية المسلمة مكتملة الأركان، والتي هي نواة التغيير للعودة إلى ما كان عليه سلف الأمة.
 
ولكن هل خالف أحد مِن السلفيين هذه الرؤية؟

وهل دعَّم أحد منهم جماعة الإخوان في صدامها مع المجتمع؟!
 
حاول الإخوان أن يصوروا أن التيار السلفي كله معهم، وأن "الدعوة السلفية" وحدها هي التي تصر على عدم الصدام! ولكن حقيقة الأمر غير ذلك، فإن "الدعوة السلفية" -كما أسلفنا- هي الثقل الحقيقي وسط السلفيين، وهي تمثل السواد الأعظم منهم، وكان موقف جماعة أنصار السنة قريبًا من ذلك؛ إذ رفضوا الصدام وصرَّحوا بذلك، وكان كذلك موقف معظم المشايخ السلفيين الفرديين، والشباب السلفي المستقل، وإن مالوا لاعتزال المشهد؛ إلا أنهم لم ينجرفوا للصدام، ومَن تسرع وأفتى بالنزول أو نزل؛ تدارك خطأه سريعًا بعد أن أدرك ضعف قراءته للمشهد.
 
ورغم جسامة الأحداث وعظم البلاء إلا أنه كان للمنهج السلفي أثره على منتسبيه من دعوة سلفية، وأنصار سنة، ورموز فردية، وشباب مستقل؛ فكانت أخلاقهم أفضل الأخلاق، ولم ينزلق منهم إلا القليل (ولله الحمد).
 
ويبقى أن هناك أسبابًا وراء خلاف بعض السلفيين لهذه الرؤية والانضمام للإخوان، فمن هذه الأسباب:

- التحاسد والتباغض؛ فالبعض يرى غيره من السلفيين وقد صار لهم كيان ظاهر ونشاط لافت، وقد كان يعتقد أنه وهُمْ فَرسي رهان، بل يرى أنه أعلى منهم كعبًا وأعظم أثرًا، ولكن مع وجود اختبارات حقيقية؛ علم حجم الفارق بيْن مَن كان يبني قبل الثورة رغم صعوبة الظروف مِن خلال عمل جماعي منظم، وبين مَن اكتفى بالعمل الفردي؛ وبدلًا مِن التعاون معهم رفع شعار: "لستُ وحدي فاشلًا، بل كلنا فاشلون ولا نصلح، والإخوان هم رجال المرحلة!".

- والبعض منهم كان خلافه إداريًّا محضًا؛ فترك لنفسه العنان وتحول خلافه إلى خلاف فكري، والبعض ومع نجاح ثورة "25 يناير" في الإطاحة بـ"مبارك" غلبت ثوريته سلفيته، وأصبح الفعل الثوري مقدَّمًا على العمل التربوي البنائي.

- يبقى أنه لم يخالف إلا نزر يسير، وهم طائفة مِن مشايخ القاهرة الفرديين لنزوع سابق نحو التكفير، ولما أسلفنا، وقيادي واحد فقط مِن "الدعوة السلفية" الذي كان خلافه مع الدعوة إداريًّا حيث كان يرى بأحقيته في رئاسة الدعوة؛ لأنه يرى أنه مؤسسها!

وزادت حدة خلافاته -هذا القيادي- بعد انتخاب مجلس الإدارة الحالي، ورغم أنه اُنتخِب كنائب ثانٍ لرئيس الدعوة؛ إلا أنه - وبدفع مِن الإخوان المسلمين - غرَّد وحده بعيدًا عن مجلس إدارتها، ثم تحول هذا الخلاف الإداري إلى خلاف فكري مع تطور الأحداث، ولكَ أن تستمع لخطبته على "منصة النهضة" ليلة فض الاعتصام وهو يتحدث أن المعركة معركة إيمان وكفر، وأن المعسكر الآخر كله ملحدون، وأن الرصاصة التي تأخذها في صدرك خير مِن التي تأخذها في ظهرك! ثم اقرأ بعد ذلك كتابه: "تحصيل الزاد لتحقيق الجهاد"؛ لتعلم مقدار التغير الذي حدث!
 
* وهناك سؤال آخر: لماذا مالت شريحة من التيار السلفي نحو اعتزال المشهد

ولم يكن لها دور إيجابي كالدعوة السلفية أو حتى كأنصار السنة من حيث التحذير من الصدام مع المجتمع؟!
 
وسبب ذلك: أن هذا الاختلاف في مواقف الطيف السلفي له جذور؛ مَن أدركها لن يفاجأ بهذه المواقف، وهذا التباين... أذكر منها:
 
- الموقف مِن العمل الجماعي: لممارسة العمل الجماعي الأثر الجيد في اتخاذ القرار الأصوب، فمن مارس العمل الجماعي يتعلم كيف يتنازل عن رأيه لرأي المجموع، ويتعلم أن رؤيته الشخصية ليست هي نهاية المطاف، بل حينما توضع إلى جوار رؤية غيره يرى ما فيها من نقص؛ مما يساعد في الوصول لرؤية جماعية تكون عادة هي الأقرب للصواب، والعمل الجماعي يجعل صاحبه عنده إدراك جيد لموازين القوى مِن حوله؛ وبالتالي اتخاذ القرار الأصوب.

كما أن العمل الجماعي يقي صاحبه من التغرير به أو اللعب على عاطفته، ولك أن تقارن بيْن موقف "الدعوة السلفية" مِن ترشُّح "حازم أبو إسماعيل"، وقرارها الجماعي بعد دراسة وتشاور أنه لا يصلح، وكيف هرول العديد من السلفيين خلفه؛ فقط لأنه دغدغ مشاعرهم!
وعلى العكس مِن ذلك .. فالعمل الفردي هو أصلًا نوع من الاعتزال، ويجبِر صاحبه على الاعتزال؛ فماذا يفعل صاحب العمل الفردي وسط الكيانات والقوى المتصارعة إلا الاعتزال؟! فاعتزال المشهد يكاد أن يكون خيارًا واحدًا أمام صاحب العمل الفردي؛ خاصة مع الأحداث الجسام.
 
- العمل مِن خلال كيان: العمل من خلال كيان هو ثمرة للعمل الجماعي المتصل، والذي يعمل من خلال كيان يراعي أثر قراره؛ ليس على نفسه فقط، ولكن على نفسه، وعلى كيانه المنتمي له، والذي ينصر الدين من خلاله.

وعلى الرغم من أن الفرد أخف في الحركة من الكيان إلا أن حركته نادرًا ما يلتفت إليها أحد، ولكن حينما يتحرك الكيان ينتبه الجميع ويحسب لهذا الكيان ألف حساب.

والذي يعمل منفردًا ولم يسعَ لإنشاء كيان هو بالفعل قد أخذ قرارًا بالاعتزال، وغاية ما يمكن فعله هو التعليق على أفعال الكيانات الفاعلة مِن استحسان بعضها ونقد للبعض الآخر.

والكيانات لا تُبنَى مِن خلال "صفحات الفيس"، ولا بالمواعظ والخطب الرنانة، ولكن تبنى بالسعي، والخلطة، والتربية، وإنفاق الأعمار والأوقات.
 
- الدعوة للإسلام بشموله: عملت الدعوة السلفية قبل الثورة على الدعوة إلى الإسلام بشموله؛ فلم تتوقف عن الكلام عن الحاكمية وضرورة تحكيم الشريعة، والولاء والبراء، وأحكام الجهاد بفهمها الوسطي المعتدل؛ ولذلك مُنِع رموزها من الظهور على شاشات الفضائيات.
ورغم ما كان للفضائيات الإسلامية ورموزها مِن أثر في انتشار السمت الإسلامي إلا أن قصْر الحديث على أعمال القلوب، والأخلاق، والسِّير، وترك الحديث في كثيرٍ من القضايا المهمة - هو في الحقيقة نوع مِن الاعتزال، وإذا ما ألمَّت بالمجتمع أحداث جسام كالتي نعيشها؛ فهذا النمط من الدعوة والدعاة أقرب للاعتزال منه للاشتباك مع تلك القضايا التي دأب على النأي بنفسه عنها.
 
- الخوف من النقد وعدم الرغبة في دفع ضريبة اتخاذ مواقف حاسمة: أخذ الله الميثاق مِن الذين أوتوا العلم أن يبينوه للناس ولا يكتمونه؛ لذا فواجب على العالِم أن ينصح لأمته؛ رضي مَن رضي، وسخِط مَن سخط، ولكن في ظل تلك الظروف الراهنة، وفي ظل ماكينة "تشويه السمعة" الإخوانية، وفي ظل رضا بعض مَن كانوا ينتسبون للعلم أن يكونوا أداة سب تَقذِف بها الإخوانُ كل مخالفيها؛ مال بعض العلماء والدعاة للاعتزال، وأنا أعلم أن نية بعضهم وقد رأى جميع السفن تحترق - أو ظن ذلك - أن يدخر سفينته؛ علّها تقل بعض الغرقى حينما تهدأ الريح، وإن كنتُ أختلف مع تلك الرؤية؛ فالناس في الريح أحوج لمن ينقذهم لا بعدها.
 
- وكذلك خوف بعض مشاهير الدعاة أن يخسر بعض محبيه إذا تبنى هذا الموقف أو ذاك: ويرى أن الأحداث الحالية سوف تمر، ولا يريد أن يفقد بعضًا مِن رصيد محبيه ومتابعيه؛ لذا قرر الاعتزال، وإن كان بعضهم يُسرُّ بموقفه دون الجهر به.
 
- دراسة القضايا المنهجية والفكرية: والتي تمكِّن صاحبها مِن معرفة المنطلقات الفكرية للتيارات المختلفة، وتمكنه مِن تقييم الجماعات العاملة في الساحة تقييمًا منصفًا دون إفراط أو تفريط؛ فلا ينخدع بعبارات عاطفية أو ثورية تُخفي خلفها مناهج بدعية.
 
موقف الجماعة الإسلامية

أخرتُ موقف الجماعة الإسلامية لما فيه مِن لبس واشتباك...

فالجماعة الإسلامية تبنت الصدام مع النظام الأسبق، وإن كانت تختلف عن تنظيم الجهاد في كونها لم تكفـِّر النظام، ولا رجال الشرطة، ولا الجيش؛ لذلك كان قيامها بمراجعات أيسر من غيرها.

والجماعة الإسلامية ليس لها وجود تقريبًا في الوجه البحري أو القاهرة الكبرى، ولها بعض القواعد في بعض محافظات الصعيد، واللافت للنظر أن تلك القواعد بالصعيد لم تشارك في مظاهرات الإخوان، وهناك قدر كبير من التنسيق بينها وبين القوى الأمنية!
وأيضًا هناك رموز تاريخية ترفض الصدام مع المجتمع، مثل: ناجح إبراهيم، وكرم زهدي، وعبود الزمر، ومفتي الجماعة عبد الآخر حماد.

ويبقى أنه يخالف جسد الجماعة ورموزها التاريخية بعض القيادات صاحبة الصوت العالي، مثل: عاصم عبد الماجد، وعصام دربالة، وطارق الزمر، وصفوت عبد الغني، وغيرهم... مما يحتاج لتفسير وتساؤل حول الموقف الحقيقي للجماعة الإسلامية.

- أما جمهور الإسلاميين فقد تُرِكوا نهبًا للإخوان، ولباقي التيار القطبي يسوقونهم وقودًا لمعركة فاشلة لاستعادة سلطة زائلة، ولم يأخذ بحُجَزِهم إلا "الدعوة السلفية" التي استطاعت - بفضل الله - تحريز شريحة كبيرة مِن أبناء التيار الإسلامي وسط صمتٍ مهيب مِن غالب الرموز السلفيين! وهذا رغم ما تعرضت له "الدعوة السلفية" - ولا تزال - مِن طعن وتشويه.
 
 
فإلى أبناء الدعوة السلفية "العمود الصلب للتيار السلفي في مصر":

أعلم ما في حلوقكم مِن غصة وألم مِن بعض الرموز السلفية التي لم تدعمكم فيما سبق من استحقاقات وانتخابات حينما شارك بعضكم في تأسيس "حزب النور"، وكذلك حينما هاجمكم "الإخوان" وأعوانهم في الداخل والخارج، ورموكم بالعمالة والخيانة والنفاق، بل والردة! ولم تسمعوا مِن هؤلاء الرموز دفاعًا ولا إنكارًا؛ رغم علمهم ببطلان هذه التهم! فلعله مِن تمام أجركم، ولا يدفعكم ذلك إلى الانتقاص منهم، بل لا ننسى فضلهم وسبقهم، وأنهم كانوا هداة للناس، والحفاظ عليهم من الحفاظ على الدين، بل والذب عن أعراضهم، وإنزالهم منازلهم.
 
ويبقى أن نقول: إن مِن أهم ما يميز "الدعوة السلفية" هي أنها تمارس العمل الجماعي منذ عشرات السنين مما أكسبها مزيدًا من العلم والخبرة، وإدراك موازين القوى بشكل جيد، والقدرة على التنبؤ بمآلات الأمور، واتخاذ قرار جماعي شوري؛ مما يلزمها باستمرار النصح للتيار الإسلامي، ومحاولة الحفاظ على مكتسباته؛ حتى وإن حاول تدميرها الأبعدون، ولم يفهم قراراتها بعض الأقربين.

ولا تخلو "الدعوة السلفية" كأي كيان من العيوب والنقص، وقد يصيب اجتهادها في المواقف وقد يخطئ، ولعلِّي أشعر ببعض التقصير في التواصل مع محيطها السلفي والاستفادة من كفاءات وخبرات ترغب في نصرة هذا الدين، ومع ذلك فلا ينبغي ألا يشعر السلفي بغربة إذا اقترب من الدعوة السلفية، بل هي بيت جميع السلفيين وملاذهم الآمن.

أسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يحفظ لنا علماءنا!