الصحوة الإسلامية ومنطلق الرحمة المفقود

  • 230

الله هو الرحمن الرحيم، يرزق العباد القلوب الرحيمة التي تتدفق رحمة وحنانا وشفقة على الخلق؛ وعلى قدر نصيب العبد من الصلاح والإصلاح  والإحسان في عبادته وعلمه ودعوته وقربه من القرآن،  "إن رحمت الله قريب من المحسنين" تكون رحمة الله قريبة منه لا ينزعها من قلبه فيستحيل قاسيا على الأقربين والأبعدين؛ فقد تنزع منه حتى على فلذة كبده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس حين أخبره أن له عشرة من الولد لم يقبل منهم أحدا: "أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة".
 
فمن كان هذا حاله مع القريبين فكيف يكون حاله مع من آذاه أو تعرض له بسوء؟! هذا لا يتصور منه إلا أبشع صور الانتقام وإرواء الغليل بالشماتة وأنواع الإهانة.
 
ولكن أفق الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم وورثتهم من العلماء والحكماء والدعاة  في سماء أخرى، وفي علو سامق من فيوضات الرحمة التي يفيض الله بها على قلوبهم على الموالفين والمخالفين على البر والفاجر والمؤمن والكافر والذي أحسن والذي أساء؛ وهذا يدل على اتساع قلوبهم وتدفق شلالات الرحمة والحنان والشفقة فيها من آثار علاقتهم الطاهرة بربهم التي تشبعهم وتغنيهم عن ملاحقة المخلوقين مطالبة وعتابا وعقابا.
 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "العارف لا يرى لنفسه على أحد حقا، ولا يرى لنفسه على أحد فضلا؛ ولذلك لا يعاتب ولا يطالب ولا يضارب" مستغنيا بالله عن العالمين، فتراه يصبر الصبر الجميل على الأذى بلا جزع ، ويهجر الهجر الجميل بلا أذى، ويصفح الصفح الجميل بلا عتاب.
 
تجده رحيما على المخالف ولو كان كافرا، يسترحم ربه له ويسعى لهدايته بكل وسيلة، يكره كفره وفسوقه وعصيانه ولا يكره شخصه كراهية تعيقه عن دعوته "ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان".
 
انظر كم كانت رحمة إبراهيم عليه السلام، كادت تملأ السهل والوادي مع أبيه رغم الأذى والتهديد بالرجم، "قال سلام عليك سأستغفر لك ربي"، ومع قوم لوط المجرمين ومع إتيان البشرى لم ينشغل، "فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط"، يسترحمهم يجادلهم في تأخير العذاب عنهم وعن قريتهم.
 
"إن إبراهيم لأواه حليم "، الأواه: كثير التوجع والتأوه لأحوال الخلق.
 
لم تقتصر الرحمة على القريب أو من معه في فئته وعصابته وطائفته، بل شملت المخالف والعاصي والكافر مع كراهية المنكر والسعي لإزالته باليد واللسان.
 
انظر إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالكفرة حتى مع الإيذاء الحسي والمعنوي؛ حتى عاتبه ربه في هذا "فلعلك باخع نفسك على آثارهم"،و"فلا تذهب نفسك عليهم حسرات"، و"فبما رحمة من الله لنت لهم".
 
"لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحد الله تعالى" مع القدرة على الانتقام بأن يطبق ملك الجبال الأخشبين!
 
ورحمة الصالحين المصلحين كرحمة مؤمن آل ياسين بقومه مع الضرب والسحل والدوس بالأقدام حتى خرجت أمعاؤه من دبره ولفظ أنفاسه الطاهرة الأخيرة وصوته يجلجل: "إني آمنت بربكم فاسمعون"، ثم "قيل ادخل الجنة"؛ فانطلقت منه صرخة رحمة وشفقة تشق صدور القساة وغلاظ القلوب: " ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين"، هذه رحمته بمن آذاه وقتله وهو يدعوهم إلى الله ويريد بهم الخير.
 
منطلق الرحمة في الدعوة إلى الله منطلق رباني يشكل رؤية مختلفة للداعية وهو في أتون الصراع والتدافع بين الحق والباطل؛ ومن ثم تختلف سلوكياته ومظاهر بذله وتضحياته في دعوته وإصلاحه.
 
فهل اصطحبنا هذه النفسية "ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد"؟!
 
هذه المشاعر "فإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير."
 
هذه الأحاسيس "إني آخذ بحجزكم من النار وأنتم تفلتون مني تقحمون فيها"....
 
الرحمة منطلق مفقود في دعوتنا  وصحوتنا داخل البيت وخارجه، وفي أخلاقنا وفي أدبيات خلافاتنا مع الموالف والمخالف داخل مؤسستنا وغيرها .
 
ولذلك لا نزال نكلم أنفسنا ودعوتنا محصورة في فئة دون فئة، وطائفة دون طائفة ..محجرة عن العالمية والقرب من قلوب وعقول الجماهير لفقد هذا المنطلق!
 
لابد أن تختفي من حياتنا ودعواتنا التعدي والتكفير والتنفيق بالباطل، وتيئيس الخلق من رحمة ربهم بلسان الحال أو المقال "والله لا يغفر الله لك "، أو "ليس لك توبة"!
 
والقسوة على المخالفين أو المبتدعين بالشماتة أو الفرح فيهم حتى مع أذاهم ..والتعيير والتنابز بالألقاب.
 
فرحمة الله واسعة تسع كل شيء،وذنوبهم مهما عظمت فهي شيء.
 
فرحمته حَرية بأن تدرك مثل فرعون فما بالك بمن دونه؟!
 
قال جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم: "لو رأيتني يا محمد، وأنا أدس الطين في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة".
 
فلتكن بالرحمن خبيرًا، تدل عليه بسمتك وأخلاقك وسلوكياتك ودعوتك!