الأمة وزمن التحديات (2-2)

  • 194

كنا قد تناولنا في المقال السابق اثنين من التحديات التي تواجهها الأمة المسلمة: التحدي على مستوى الفرد، والتحدي على المستوى الأسري؛ وبقي أن نتناول ثالثهما.
 
التحدي الثالث على مستوى المجتمع والأمة:
 
· وهذا التحدي هو نتيجة طبيعية للتحديين السابقين، فالواقع يشهد دولًا تتهاوى وشعوبًا تتفكك، والمنطقة من حولنا (سوريا، ليبيا، فلسطين، لبنان، العراق، اليمن،...) لا تحتاج كثير كلام ولا كثير تعليقات؛ فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري ولا تعمل وتواجه؛ فالمصيبة أعظم، ومن يظن أن الكلام مجرد فزاعة نقول لهم: أفي كل موطن لا تعقلون وتبررون؟
 
· وهذا التحدي حتى ينتظم الكلام بيني وبينك سيكون على شقين:
 
1- تحدي الشهوات.
 
2- تحدي الشبهات.
 
الشق الأول: تحدي الشهوات:
 
العالم اليوم والمجتمع الآن يعاني من فراغ روحي وإيماني وتحكم الشهوات والمعاصي والذنوب، فرغم أن العالم وصل إلى أعالي الدرجات في التقنية الحديثة والتواصل الاجتماعي والتكنولوجيا، لكن الجانب النفسي والإيماني مدمر، والانحراف فيهما هائل، والتحديات فيهما كبيرة جدًّا، وعندما نتأمل حالات الإدمان وتعاطي المسكرات والمخدرات وشهوة الجنس والعلاقات العاطفية المحرمة والتعلق بها حتى أصبحنا نسمع عن إدمان النظر للمواقع الإباحية!
 
فجحيم الشهوات يحرق المجتمعات ويجعلها خرابا يعوي فيها بوم الفجور، وتتحول البلاد إلى مدينة أشباح ومستنقعات للرذيلة والفواحش؛ ولعل هذا يفسر جزءًا من ظهور بعض دعاة الإلحاد وعبدة الشيطان في المجتمع الإسلامي، فالسبب عندي - بلا شك - جانب الشهوات والفراغ الروحي والإيماني، وقلة الوازع الديني وضعف سلطان الأسرة، فعلى المجتمع أن يدرك أن التحدي كبير لا يستهان به لأن هذا الانحراف يؤدي إلى ضياع أعظم الثروات وهي الثروة الشبابية، ويأكلها أكلًا، ويجتثها اجتثاثًا، كما أنه وقود الانحراف الفكري بعد ذلك، بل وهو سبب من أسباب انتشار السرقة والتزوير والغش والاختلاس والتحرش والزنا والربا؛ فتصبح المجتمعات لا تهتم بعظائم الأمور تحب الراحة والكسل، فإن تعلمت فمن أجل الشهوة، وإن نالت المنصب فمن أجل الشهوة، فهي تجود بكل شيء من أجل الشهوات، ومن المعلوم أن هذه الأمور أشد خطرًا من الحروب والدمار العمراني.
 
وكفى هؤلاء انحرافًا عن المنهج الذي أتت به الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، ورسالة الإسلام نادت على المجتمعات فقالت:
 
 (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ  إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
 
نادت فقالت:  ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى).
 
نادت فقالت: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
 
ولا علاج أنفع ولا أنجع لهذا التحدي مثل الإيمان بالله والعمل الصالح (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)، (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
 
أيها الجيل، الشهوات أشد خطرًا من الموت؛ فالموت يقطع عن الأهل والدنيا، والشهوات تقطع القلب عن الله والسعادة.
 
الشق الثاني: الشبهات:
 
-  الانحراف الفكري الهائل هو تحدٍ من أصعب التحديات وأخطرها على الإطلاق، ولا يكفي فيها مجرد الحلول الأمنية والقمعية التي قد يترتب عليها ظلم، بل فعلًا ترتب عليها ظلم للبعض فأُخذوا من غير جريرة ولا ذنب ارتكبوه، فالظلم لا يقيم دولة، والتكفير والتفجير لا يبني مجتمعًا؛ لذلك يجب أن يُضم إلى الحل الأمني المنضبط إبطال شبهات هؤلاء المارقين، وتحصين المجتمع منها خاصة الشباب حتى لا يكونوا عرضة لتلك الأفكار الهدامة.
 
- المناهج التكفيرية والتفجيرية كـ"داعش" ومن على شاكلتها: ما تفعله فساد وليس جهاد، وغواية وليس هداية؛ فهؤلاء خالفوا منهج الرسل والفهم الصحيح للإسلام، وكفروا وقتلوا بغير وجه حق، يقتلون أهل الإسلام ويداهنون أهل الأوثان، هم الخوارج الجدد – هداهم الله - فهم بمثابة حصان طروادة، يشوهون صورة الإسلام، ولعل الأنظمة التي نحَّت وأضعفت دور الدعاة وعلماء أهل السنة، أدركت الآن حجم الخطأ وفداحة ما فعلوا، فهل سيستدركون ذلك؟!
 
ونحن مع ذلك ضد التدخل الأجنبي في بلاد المسلمين، ونرى أن التحالف ضد "داعش" دُبر بليل، وله تبعات وويلات للمنطقة خاصة أن العالم والمجتمع الدولي يكيل بمكيالين، وها نحن نحذر كما حذرنا قبل ذلك في تسعينيات القرن المنصرم من التدخل الأجنبي في غزو العراق.
 
- تحدٍ آخر وهو الفكر الشيعي وطموحاتهم وأطماعهم في المنطقة كلها، شامها ومصرها ويمنها، أصبحت واضحة والبعض أدرك الآن ما حذرنا منه منذ قيام ثورة الهالك الخميني، وما يحدث في اليمن الآن ليس عنكم ببعيد من أفعال الحوثيين، وهذا يهدد المنطقة بأسرها، وتاريخ خيانات الشيعة للأمة معروف، لكن البعض باع دينه ووطنه بثمن بخس، ولا نعرف دولة دخلها الشيعة ونعمت بالأمن والاستقرار والواقع يشهد.
 
- ولا يقل خطرًا عن هؤلاء أصحاب المدرسة العقلانية، وأصحاب الأهواء الذين لهم أذناب في الإعلام الخاص وبعض القنوات المشبوهة، وأصحاب الأجندات الخاصة؛ من إنكار صحيح السنة وعذاب القبر ونعيمه، والتطاول على ثوابت الإسلام وردها بزعم أنها تخالف العقل، وأيضًا التطاول على أئمة الهدى ومصابيح الدجى مثل أبي هريرة والبخاري، والتشكيك في الصحيحين وكتب السنة والمسانيد.
 
- ومن التحديات أيضًا: أصحاب الأفكار التي نشأت في بيئة غربية كالعلمانية والليبرالية يريدون حصر الإسلام داخل المساجد، وبعض الأساليب فقط، وينادون بفصل الدين عن الحياة وفصل الدين عن السياسة، ألم يقرأ هؤلاء قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)؟! فالمنهج الإسلامي يدعو أصحابه ومعتنقيه إلى التدين في كل مكان وزمان، وأن ينظم الحياة العامة والخاصة قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي? أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)، قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
 
أيها الجيل، مواجهة تحدي هذه المناهج الهدامة والأفكار المنحرفة يكون بالعلم وملازمة العلماء ونشر الفهم الصحيح للإسلام والدعوة إليه، وعلى الأزهر والدعاة والأوقاف أن يتكاتفوا جميعًا، ولا تكفي مؤسسة واحدة مهما كانت للقيام بهذا الدور وحدها؛ لأن الأمر يتطلب جهدًا جهيدًا وعملًا دؤوبًا، والدعوة السلفية لها جهود لا ينكرها إلا جاحد، ولا يعرف للإنصاف طريقًا في هذا الباب والمضمار.
 
أيها الجيل، التحديات التي تواجه مصر كبيرة وخطيرة (شهوات وشبهات)، فكنانة الله في أرضه على المحك.
 

احفظوها إن مصر إن تضع *** ضاع في الدنيا تراث المسلمين
 
فحافظوا على بلادكم، واحذروا من الانحرافات؛ فخطر التقسيم لا زال قائمًا،  ولا سبيل ولا حل ولا نجاة إلا بالتكاتف المجتمعي على مصدر عزتنا وقوتنا وشرفنا (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)،قال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).
 
وهذه التحديات أنت لها بإذن الله، لا يكفي أمامها مجرد مصمصة الشفاة والشعور بالمسئولية فقط، بل يجب تحمل المسئولية والعمل والحركة، وإياك ثم إياك أن تفقد الأمل.
 
- نعم، التحديات كبيرة لكن لنا أمل.
 
- احذروا من الهزيمة النفسية والإحباط واليأس أمام هذه التحديات والمعوقات.
 
- احذروا من فقد الأمل في التغيير والإصلاح.
 
- فلا انتصار بدون معنويات مرتفعة، وأول الهزيمة ضعف الحالة النفسية وظهور علامات اليأس والإحباط، وكيف تهزم أمة تتلو في كتاب الله (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)؟!
 
- وأختم بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معركة شقحب: (أيها الناس، إنكم غانمون ومنصورون، قال أحد الناس يا إمام، قل: إن شاء الله، قال: أقول لكم إنكم غانمون ومنصورون إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا)؛ فهذه الأمة ستنتصر وسيمكن لها إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا.
 
-وأخيرًا: نحن ما تحدثنا عن هذه التحديات وأشرنا إليها إلا لنجعلها نقطة انطلاقة من جديد ولنا أمل.
 
لا تيئسوا أن تستردوا مجدكم *** فلَرُبَّ مغلوب هوى ثم ارتقى