أساليب نشر العالمانية... (1) صنع الظروف المولدة للعلمانية

  • 147

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى، ثم أما بعد:
 
العلمانية نبت غريب على بلاد الإسلام ما فتأ أصحابه يحاولون غرسه فى بلاد الإسلام لا يكاد يتماسك زرعه إلا كما يتماسك الزرع النابت فى طبقة رقيقة من التراب على صخر أملس فتنمو شيئا ما، حتى إذا فرح بها أصحابها أتتها أمطار الحجة فغسلت الزرع والتربة، وتركته صلدا، مثلهم فى ذلك كالمثل الذى ضربه تعالى فى قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
 
وإذا استصحبنا هذا المثل فسنجد أن جهود المستشرقين -التى أكملها من يعدهم تلاميذهم عن علم أو عن جهل- تدور حول عناصر هذا المثل ما بين محاولة وضع تلك الطبقة الترابية فوق الصخر الصلد، وما بين محاولة سقيه هذا الزرع وتثبيته بما يتوافق مع عجزه وضعفه، وما بين منع الوابل الصيب المستمد من نور الوحى من أن يعمل أثره فى إزاحة هذا النبت الهزيل؛ ومن ثم يمكن تلخيص طرقهم فى عدة محاور رئيسية تحت كل منها محاور فرعية يمكن إجمالها على النحو التالى:
 
1-     صنع الظروف المولدة للعلمانية وذلك من خلال:
-       افتعال الصدام بين الدين والعقل.
-       افتعال الصدام بين الدين والعلم الحديث.
-       افتعال الصدام بين الدين ومتطلبات الحياة الحديثة.
 
2-     تكريس الواقع المنحرف لا سيما فى المجالات التالية:
-       مجال الحكم بتكريس الديموقراطية الليبرالية ومنع محاولات أسلمة الديموقراطية.
-       مجال الاجتماع خصوصا ما يتعلق بالأسرة والمرأة.
-       مجال الاقتصاد وخصوصا فيما يتعلق بالربا والميسر.
-       مجال الفنون والآداب.
 
3-     ترويض الظاهرة الدينية عبر الوسائل التالية:
-       الزعم أن الدين علمانى بطبعه.
-       المطالبة بعلمنة الدين.
-       تثوير الدعوة الإسلامية.
 
4-     ترويع المؤسسات الدينية الرسمية والأهلية.
وسوف نتناول هذه الأساليب في سلسلة مقالات، ونبدأ في هذا العدد بالأسلوب الأخطر والأهم وهو:
        صنع الظروف المولدة للعلمانية
 
لقد نشأت العلمانية في ظروف معينة، وهذه الظروف هى  باختصار شديد:
-المصادمة بين الدين النصراني المحرف وبين العلم.
-المصادمة بين الدين النصراني المحرف وبين العقل.
-الطغيان الكنسي لوجود نظام الحكم المسمى بالدولة الثيوقراطية، وهى لا تعنى وجود شريعة تطبق من خلال حاكم عادل ومن خلال قضاة عادلين، ولكن الحكم الثيوقراطي عندهم يعنى أن الشريعة ذاتها غير محددة بناء على  عقيدتهم من أن الوحي لم ينقطع، وأن رجال الدين هم الذين يقطعون في كل شئ بلا ضابط وبدون أن يحاسبهم أحد.
 
هذه الظروف لا وجود لها إطلاقا عندما نتحدث عن الإسلام.
يعني: عندما نتحدث عن الإسلام لا يوجد تناقض بين الإسلام وبين العقل.
لا يوجد تناقض بين نصوص الكتاب والسنة بعضها البعض، ولا يوجد كهنوت، ولا يوجد حاكم مطلق من البشر؛ وإنما الحاكم المطلق هو الله تعالى "إن الحكم إلا لله"، وحتى الرسل إنما يبلغون عن الله عز وجل؛ فطاعتهم مطلقة باعتبار البلاغ، وأما من دون الرسل فالأمر في غاية الوضوح.
لقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى هز بل نسف ثقة الرجل الغربى المتدين فى إيمانه، وفى دينه؛ ومن ثم خلا الجو للعلمانية.
 
وعندما علم المستشرقون تلاميذهم هذه القضايا كانت المغالطة الكبرى أنهم أوهموهم أن جميع الأديان متشابهة فى خصائصها لا سيما فى العيوب التى اضطروا إلى الاعتراف بوجودها فى دينهم، ونحن معشر المسلمين نعتقد اعتقادا راسخا أنه كتبها الأحبار والرهبان بأيديهم وقالوا: "هذا من عند الله" ولكن العقبة التى واجهها دعاة العلمانية فى بلاد الإسلام أن كل هذه المبررات لا وجود لها، وأن المجتمعات الإسلامية متدينة بطبعها؛ بالطبع يوجد الكثير من الانحرافات فى التطبيق ولكنها تبقى بعيدة كل البعد عن الكفر بالدين أو الشك فى الشريعة، أو اعتبار أن السعادة فى مخالفتها.
 
وبدلا من أن يراجع القوم أنفسهم فليست الخيارات محصورة بين دين يناقض العقل أولا دين كما توهموا، بل ثمة دين لا يناقض العقل ولا يعوق العلم، بل يهيئ له المناخ، إلا أن القوم أصروا على غيهم، وأصروا أن يزعموا أن كل العوامل والمبررات التى أدت إلى طغيان العلمانية فى الغرب موجودة فى دين الإسلام، وراحوا يفتشون أو يزعمون أمثلة من هذا القبيل، وشمل هذا الجوانب التالية:


-       افتعال الصدام بين الدين والعقل.
لعل الصدمة الرئيسية التى تلقاها الأوروبى وهو فى بداية عصر النهضة العلمية أن النهضة العلمية تحاول أن تنمى عقله، وأن تنمى عنده روح البحث؛ بينما إيمانه الكنسى يطالبه بأن يحشو عقله بما يناقض العقل والمنطق وبأمور يناقض يعضها بعضا.
 
إن مناقضة كتب أهل الكتاب للعقل وتناقضها فيما بينها (وهذا راجع لما فيها من تحريف كما أسلفنا) كان السبب الرئيسى الذى زلزل إيمان هؤلاء،
ومنذ فترة مبكرة فى تاريخ الإسلام أكثر الزنادقة من الطنطنة حول هذه الأمور، ولم يكن الغرض حينئذ هو الدعوة إلى العلمانية، ولكن كان الغرض هو فتنىة المؤمنين عن دينهم؛ وقد تصدى لهم جهابذة العلماء وكانت لهم معهم صولات وجولات كردود أبى حنيفة على الزنادقة، وجواب الشافعى على شبهاتهم، وأجوبة ابن قتيبة فى "تأويل مختلف الحديث"، والطحاوى فى "مشكل الآثار"، وغيرهم كثيرون حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فجعل قضية "درء تعارض العقل والنقل" هى شغله الشاغل وصنف مصنفا كبيرا يحمل هذا الاسم، ولم يخل مصنف من مصنفاته من التعريج على هذه القضية بصورة أو بأخرى.
 
ولما جاء العلمانيون إلى بلادنا ووجدوا حصون الإسلام منيعة من أن ترمى بمخالفة العقل؛ لجأوا إلى أساليب منها:
 
إعادة نشر شبهات الزنادقة:
فمن طرقهم المكررة الممقوتة تكرار شبهات الزنادقة والمشككين عبر التاريخ، ومن الأشياء العجيبة أيضا أن البعض منهم يأتي ببعض الشبهات ويعرضها ولسان حاله يقول إني أتيت بما لم تستطعه الأوائل، ثم تفاجأ أن الشبهة موجودة في كتب الأقدمين، مثلا رد عليها ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" أو في غيره، بل تجدها بنفس ألفاظها تقريبا؛ وهذا يجعلنا نقطع أن هناك شخصا ما - لم يكن هذا الشخص المتكلم بعينه فأستاذه أو أستاذ أستاذه- لجأ إلى هذه الكتب فقرأ الشبهة وقرأ الرد، ثم كتم الرد ونشر الشبهة، أو أعاد إنشائها على أنه ينشؤها من البداية تلبيسا وخداعا.
 
تقديم المناهج الخرافية على أنها هي الفهم الصحيح للإسلام:
ومن أعجب الأمور أن تجد أن الدول الكبرى التى ما تفتأ تتحدث عن العقلانية والعصرانية هى التى تساند وجود التيارات الخرافية مثل الشيعة والصوفية، والأمر يتعدى مجرد الدفاع عن حقهم فى اعتناق ما يشاؤون، إلى الدعم المادى للاحتفالات والموالد التى يحدث فيها من مخالفات العقل والفطرة ما يخجل منه رموز الصوفية أنفسهم إذا طلبوا للمناظرة.
 
ومن أعجب العجب أن يجمع الشخص الواحد بين تبنى هذه الأفكار وبين اعتبارها دليلا على أن دين الإسلام مثله مثل غيره لم يخل من الخرافة؛ فيدافع عن وجود هذه الانحرافات ثم يستثمر وجودها فى إثبات التعارض بين الوحى والعقل بما يلزم منه الرجوع إلى العقل ورفض الدين، أو اتخاذه مرجعا أخلاقيا وثقافيا عاما.
 
إثارة الجدل في الأمور التي لها أصل صحيح لحقت به الكثير من الخرافات:
ومن أساليبهم كثرة الكلام فى الموضوعات التى لها أصل صحيح فى الشرع، ولكن هذا الأصل أصبح نقطة فى بحر بالنسبة لما راج بين الناس حوله مثل موضوعات الجن والسحر والحسد، وكلها مذكورة فى القرآن والسنة، ويعرض الموضوع كما هو فى التراث الشعبى، ثم يستضاف الضيوف بين مقر ومنكر؛ والصحيح التفصيل الذى غالبا ما لا يستضاف من يمثل هذا التفصيل، وإن تصدى الدعاة والخطباء لبيان الخطأ من الصواب فى هذه الأبواب استثمر العلمانيون هذا فى إثبات أن دعاة الإسلام لا يشغل بالهم إلا "الجن والعفاريت"، فى الوقت الذى صعدت فيه (البلاد العلمانية) إلى القمر وصنعت كذا وكذا.
 
افتعال الصدام بين الدين والعلم الحديث:
وهذا الباب قريب من سابقه، إلا أن يختلف عنه بكونه أكثر منه اقترابا من فكر الرجل العادى؛ فادعاء أن الدين فيه أخبار مخالفة للعقل كما يدعون فى بعض الغيبيات قد لا يعنى شيئا ذا بال عند الرجل العادى، ولكن عندما يتم الادعاء بعداء الدين لعلوم الطب والفلك والهندسة فإن هذا يكون أكثر إثارة للعامة أكثر من مجرد الادعاء بوجود التعارض بين الدين والعقل.
وقد تحمل المواطن الأوروبى وطأة الإيمان بدين فيه ما يناقض العقل، ولكنه ثار حينما علم أن الدين يقف عائقا أمام نظريات علمية من شأنها أن تحل له الكثير من مصاعب حياته.
 
وبالتالى سيظل المفكرون العلمانيون يرددون كالببغاوات أن وجود بعض الأحاديث التى ترشد إلى نصائح فى باب التداوى كالتداوى بالحجامة أو بحبة البركة أو بعسل النحل- أن هذا يلزم منه إغلاق كليات الطب.
مع أنه لم يقل بذلك أحد، ولم يشر إلى ذلك أحد لا من قريب ولا من بعيد، وغاية ما هنالك أن من أخذ بهذه التوجيهات النبوية وعمل بها من الأطباء استطاع أن يحقق تقدما كبيرا لأساليب العلاج فى زمانه، وأنه ومع تقدم العلم الحديث فما زالت هذه الأساليب الطبية صالحة كوسائل أساسية أو ثانوية أو وقائية فى كثير من الأمراض.
 
ومن المفيد ههنا أن نأخذ على أيدى بعض العامة، بل وربما بعض الدعاة المشهورين بحب المبالغات التى تضر أكثر مما تنفع، ويجب أن تنزه الشريعة على أن تنسب إليها تجارب الأطباء فضلا عن غيرهم فى العلاج بعسل النحل على أنها بتفاصيلها وحى من الله، وإنما الثابت فقط هو أصل الإشارة إلى أن هذا من أبواب التداوى، وأما ما سوى ذلك فجهد بشرى.
 
افتعال الصدام بين الدين والحياة الحديثة:
وهذا الخطاب المعتمد لدى معظم الإعلاميين الدائرين فى الفلك العلمانى سواء شعروا أم لم يشعروا، ولكنهم يكرسون للعلمانية دون أن يوجه لهم الاتهام بالعلمانية أوغيرها، وهذا النمط من الإعلاميين يمارس دور التلميذ المشاغب الذى يطرح أسئلة غرضها إعاقة المدرس عن الشرح وإثبات استحالة الفروض الأولية التى سوف ينطلق منها، وهذه الأسئلة تمس "رغيف السامع وحياته كلها".
وهذه الأسئلة من قبيل:
-       سلمنا لكم أن البنوك ربا، ولكن الاقتصاد العالمى قائم عليه، فهل ننعزل عنه إذا أردنا تطبيق الشريعة؟!
 
-       سلمنا لكم أن العرى حرام، ولكن السياح لا يأتون إلا بهذه الهيئة، والسياحة تمثل كذا وكذا من الدخل القومى، فهل نلغيها؟!
 
-       سلمنا لكم أن إقامة الحدود عدل، وأنها الوحيدة التى تحقق الردع الخاص والعام الذى يسعى إليه القانون الوضعى، ولكنه يفشل عندما غلت الأمم المتحدة يده عن اللجوء لمثل تلك العقوبات الرادعة، ولكن الأمم المتحدة تفرض عقوبات على البلاد التى تطبق عقوبات بدنية، فهل نتحمل مثل هذه العقوبات؟!
 
وهى قائمة من الأسئلة التى لا تنتهى، ويلاحظ عليها الملاحظات التالية:
-       أن السائل دائما ما يفترض أن الشريعة أمر يخص الدعاة إليها ولا يخص عموم المسلمين؛ ومن ثم فهو يملك رفاهية طرح الأسئلة ولا يحمل نفسه عناء البحث عن إجابة. ونحن نعترف بأن هناك صعوبات فى تغيير واقع ترسخ عبر عدة قرون، ولكننا نخاطب جميع المسلمين بأن الشريعة شريعتهم والقضية قضيتهم، وأن على الجميع أن يقدم الحلول، والشريعة تتضمن أحكاما لأحوال الاختيار وقواعد للتعامل مع أحوال الاضطرار.
 
-       أن معظم هؤلاء يطرحون السؤال فى خمس دقائق، ثم يطلبون الإجابة عليه فى دقيقة؛ مما يعنى أن المقصود أن يترسخ لدى السامع أو القارئ أن الشريعة حتى وإن استقر لديه وجوب تحكيمها فتطبيقها فى هذا الزمان فى غاية العسر، والبعض يحتج بأن القصور يأتى من قبل الشريعة ذاتها، والبعض الآخر يرى أن انحرافاتنا هى التى تجذرت بصورة يستحيل التراجع عنها؛ وكلا الأمرين فاسد وإن كان أحدهما أفسد من الآخر.
 
-       أن الذين يطلقون هذه الدعوات يحاربون أى صور إصلاح موازية؛ مما يثير الشك فى غرضهم من هذه الأسئلة، فهم يحاربون البنوك الإسلامية ويحاربون السندات الإسلامية، ويسخرون من المقاهى التى لا تقدم الشيشة (رغم أن هذا يتوافق مع مطالب منظمة الصحة العالمية)، وينبرى البعض منهم أو منهن محتجا على الممثلات اللاتى يرفضن الأدوار التى تحتوى على مشاهد تقبيل (لا أقر أن مجرد ترك هذا الأمر يجعل هذا التمثيل حلالا، ولكن نبين مدى رفضهم التام لأى إصلاح ولو كان جزئيا ومحدودا للغاية).
 
وهذه الجزئية الأخيرة تقودنا إلى الأسلوب الثانى من أساليبهم وهو "تكريس وتعميق الانحراف الحاصل" وهو ما سنتناوله فى المقالة القادمة بإذن الله تعالى.