دروس من المحنة السلفية الأولى.. السلفيون والدولة

  • 203

تمهيد:
 من المسائل التى تبدوعصية على فهم البعض فى المنهج السلفى هى جمعه بين النقاء المنهجى الذى يظن من يطلع عليه للوهلة الأولى أن من يعتقده فلن يقيم وزنا لأى شيء آخر، وربما أكد هذه النظرة بعض التصرفات التى ينتسب أصحابها إلى السلفية.
 
فى حين أن هذا المنهج يتمتع بمرونة عالية جدا فى شأن التطبيق العملى إذا تعارض مع ما هو أولى منه بما يعرف بـ"قضية المصالح والمفاسد"، والتى لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنها القاعدة الأم فى باب السياسية الشرعية.
 
ومن ذلك موقف السلفيين من دولهم وحرصهم على استقرارها رغم أن الأمر ومنذ انتهاء الخلافة الراشدة لا يخلو من مخالفات ازداد منحناها فى الجملة إلا فى فترات نادرة من التاريخ، والتى سار فيها المنحنى فى اتجاه آخر حتى كان قمة هذا التباين بينهم وبين الدولة العثمانية؛ ومع هذا كانوا هم من بقى مدافعا عنها وهى تحاربهم حتى سقطت بسسب ما أنكره عليها السفيون من بدع وانحرافات!
 
ثم كانت الدولة الحديثة فازدادت الغربة وتعمقت، ومع هذا بقى ميزان "المصلحة والمفسدة" حاكما لموقف السلفيين من دولهم، ولعل التجربة الأهم فى هذا هو ما يمكن أن نطلق عليه "المحنة السلفية الأولى"، كما أن هناك من الجماعات من يعدد محنه مع الأنظمة فى العصر الحديث، ولأن السلفية أسبق فقد كانت محنتها أسبق أيضا وأرست فيها قواعد بقيت نبراسا فى كل الفتن التى تلتها حتى وإن كانت لا تماثلها فى الشدة.
 
وأعنى بتلك المحنة السلفية الأولى محنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ إذ هى السابقة الأولى فى تاريخ الإسلام التى تتبنى فيها الدولة وأجهزتها مذهبا مخالفا لأهل السنة، بل وتمتحن العلماء والعامة فى هذا المذهب ثم تمارس تمييزا وإقصاء ضد كل من تمسك بالسنة، وتعذب وتؤذى رموز السنة أملا منها فى اقتلاع ذلك المذهب الذى يستند إلى أصول راسخة وقواعد شعبية رأى الخليفة المأمون أنه لابد من إجبارهم على المذهب الفلسفى المعتزلى الذى أوقع فيه نفسه.
 
ويمكننا أن نلخص أهم معالم منهج الإمام أحمد في هذه المسألة:
1- تبنى الدولة لمذهب باطل لا يجعله حقا؛ وهو يعطى الرخصة لآحاد الناس فى المداراة متى أكره على هذا، ولكن العلماء عليهم بيان الحق.
 
2- عدم التشوف إلى تكفير المخالف لا سيما من الحكام وإن آذى وظلم؛ لما فى ذلك مراعاة لحق "لا إله إلا الله"، وتطبيقا للقواعد الشرعية فى العذر بالتأويل.
 
3- عدم الدعوة إلى إسقاط الدولة بزعم ظلمها، بل نهى من أراد ذلك عنه.
 
4- عدم ترك الدعوة إلى الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
 
5- وجوب مراعاة المصالح والمفاسد أيضا حال تلك الدعوة. ومنه استعمال الرفق فى خطاب الحكام أكثر من غيرهم دون إخلال بأصل قضية بيان الحق.
 
وإليك عرض للقصة ثم بيان للمواطن التى يستفاد منها هذه الدروس:
فصول المحنة:
القصة مشهورة معلومة وقد وجدت ملخصا جيدا لها على بعض المواقع فزدته اخنصارا لتعبر لنا وبما يسمح به حجم المقالة عن قصة هذه المحنة الأولى وهى فى فصول:
 
الفصل الأول: أصل المحنة:
كان المسلمون أمة واحدة وعقيدتهم صحيحة وصافية من معين النبوة حتى وقعت الفتنة الكبرى وقتل عثمان رضي الله عنه مظلومًا شهيدًا؛ فتفرقت الكلمة وظهرت الشرور وتمت وقعة "الجمل" ثم "صفين" وبدأت البدع في الظهور، وحدث أول انحراف في تاريخ العقيدة الإسلامية بظهور فرقة الخوارج التي كفرت الصحابة خير الناس، ثم أخذت زاوية الانحراف في الانفراج فظهرت فرقة الروافض، وكلما ظهرت فرقة مبتدعة ظهرت في المقابل لها وعلى النقيض منها فرقة أخرى، الأولى تغالي والأخرى تعادي، فكما ظهرت الخوارج ظهرت فرقة المرجئة التي أخرت العمل وقالت: "إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط"؛ فجعلت إيمان أفجر الخلق كإيمان أتقاهم. وكما ظهرت الروافض ظهرت النواصب، وكما ظهرت فرقة القدرية نفاة القدر ظهرت فرقة الجبرية التي تنفي أي اختيار وإرادة للإنسان، وكما ظهرت فرقة المعتزلة والجهمية نفاة الصفات ظهرت فرقة المجسمة الذين يشبهون صفات الخالق بالمخلوق؛ ولكن كل هذه الفرق الضالة كانت مقهورة بسيف الشرع وقوة السنة وسلطان الدولة الأموية ثم العباسية، وقد ظل المبتدعون في جحر ضب مختفين بضلالهم، لا يرفع أحد منهم رأسًا ببدعة أو بضلالة حتى ولي المأمون العباسي وكان محبًا للعلوم العقلية وكلام الفلاسفة الأوائل، فبنى دارًا لترجمة كتب فلاسفة اليونان وأسماها "بيت الحكمة"؛ فأخذت أفاعي البدع تخرج من جحورها وأخذت في التسلل بنعومة إلى بلاط المأمون، ثم التفت حول عقله ولعبت به ونفثت سموم الاعتزال في رأسه، ونفق عليه رجال من عينة بشر المريسي، وأحمد بن أبي دؤاد رأس الفتنة ومسعرها، وغيرهما؛ حتى مال المأمون لقولهم واعتنق مذهب الاعتزال الذي يقوم على عدة أصول من أقبحها "نفي صفات الله وتعطيلها"، وأبرز معالم نفي الصفات القول بأن "القرآن مخلوق".
 
ظل المأمون معتنقًا لهذه العقيدة الضالة ولا يجبر أحدًا على اعتناقها ويتردد ويراقب الشيوخ والعلماء والمحدثين وهو يخشى مكانتهم وتأثيرهم على جماهير المسلمين، وفي نفس الوقت يحاول استمالة من يقدر على استمالته منهم، فلما رأى إعراض العلماء عن القول ببدعته زين له أحمد بن أبي دؤاد  أن يجبر العلماء وذلك بقوة الدولة وحد التهديد والوعيد، وبالفعل سنة 218هـ أمر المأمون قائد شرطة بغداد بأن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين ويمتحنهم في القول بخلق القرآن، وقرأ عليهم كتاب المأمون الذي يفيض بالتهديد والوعيد وقطع الأرزاق والعزل من المناصب لمن يرفض القول بـ"خلق القرآن"؛ ومن يومها بدأت فصول المحنة العظمى التي تحمل الإمام أحمد بن حنبل وحده عبأها والوقوف في وجه أربابها ودعاتها.
 
الفصل الثاني: الإمام أحمد والمأمون العباسي:
حُمل الإمام أحمد ومن معه من العلماء إلى دار السلطان وأخذ إسحاق بن إبراهيم قائد الشرطة في امتحانهم، ومع جدية التهديد أخذ العلماء الواحد تلو الآخر يجيب بالقول بخلق القرآن؛ فلما رأى أحمد بن حنبل الناس يجيبون غضب لله عز وجل وجهر بالحق، وبعد أول يوم لامتحان العلماء عاد الإمام أحمد بن حنبل إلى مسجده وقعد للدرس والتحديث، فالتف حوله الناس وسألوه عما جرى وألحوا في معرفة من أجاب من العلماء في هذه المحنة، فرفض بشدة وكره الإجابة على هذا السؤال، ولكن الأمر قد انتشر بسرعة بين الناس وعُرف من أجاب ممن رفض.
 
وصلت أخبار الامتحان للخليفة المأمون وكان وقتها مقيمًا بطرسوس على الحدود مع الدولة البيزنطية؛ فتغيظ بشدة ممن رفض القول بخلق القرآن وطلب من قائد شرطته «إسحاق بن إبراهيم» أن يجمع العلماء مرة أخرى ويمتحنهم ويشتد في التهديد والوعيد، وبالفعل اشتد إسحاق في التهديد حتى أجاب كل العلماء ما عدا أربعة: (أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريري، وسجَّادة)؛ فقام إسحاق بحبسهم وتهديدهم بالضرب والحبس، فأجاب (سجَّادة والقواريري) فخرجا من السجن وبقي (أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح)؛ فأرسل بخبرهما إسحاق إلى الخليفة المأمون الذي استشاط غضبًا وأمر بحملهما مقيدين زميلين إلى طرسوس، وقد أقسم ليقتلنهما بيده إذا لم يجيبا في هذه الفتنة، بل أشهر سيفًا ووضعه بجانبه استعدادًا لقتلهما إذا أصرا على الرفض.
 
حُمل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح من بغداد إلى طرسوس، وفي الطريق وقعت عدة حوادث كان لها أثر كبير في تثبيت الإمام أحمد ورفيقه، ودللت أيضًا على أن الناس كانت كلها وراء الإمام وتؤيده وإن كانت لا تملك له شيئًا، فقد قابله بالرحبة (موضع على شاطئ الفرات على بعد مائة فرسخ من بغداد) رجل من عامة المسلمين يعمل في غزل الصوف والشعر، قد جاء لمقابلته خصيصًا من بادية العراق ليقول له: (يا أحمد، إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت عشت حميدًا، وما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة)؛ فقوي قلب الإمام أحمد بهذه الكلمات.
 
ثم بعد فترة استراح الركب في خان بالطريق للمسافرين، وفي الخان قابل الإمام أحمد أحد أصدقائه القدامى واسمه "أبو جعفر الأنباري"، والذي عبر الفرات للقاء الإمام أحمد قبل سفره إلى طرسوس، فلما رآه الإمام أحمد قال له: يا أبا جعفر، تعنيت (أي: كلفت نفسك مشقة السفر وعبور الفرات) فقال له أبو جعفر: (يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك؛ فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلقٌ، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلقٌ من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب). فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد عليَّ، فأعاد عليه، وأحمد يبكي ويقول: ما شاء الله!
 
وفي طريق السفر كان الإمام أحمد يتهجد ويصلي في جوف الليل ويدعو الله عز وجل أن لا يرى المأمون وألا يجتمع معه أبدًا، ويلح في الدعاء، وفي رجب سنة 218هـ وقبل أن يصل الإمام أحمد ورفيقه محمد بن نوح إلى طرسوس هلك المأمون فجأة بلا مرض ولا تعب، فراح ضحية سهم من سهام الليل من قوس مظلوم بوتر مكلوم هو دعاء الإمام أحمد عليه!
 
الفصل الثالث: الإمام أحمد والمعتصم العباسي:
هذا الفصل هو الأشد والأروع في فصول هذه المحنة العظمى، وتجلى فيه صمود الإمام أحمد حيث أصبح وحده في الميدان بعد أن مات "محمد بن نوح" تحت وطأة الحبس والتنكيل، ورغم أن الخليفة المعتصم لم يكن من أهل الفكرة ولا يعتقدها في الأساس، ولكنه خاض في الفتنة وانغمر فيها لأن أخاه المأمون قد أوصاه بذلك، فحمله حبه لأخيه المأمون لأن يعمل بوصيته، بل يزيد عليها، فكان أول قرار أخذه المعتصم هورد الإمام أحمد إلى بغداد وسجنه هناك في سجن ضيق مظلم والقيود في يديه ورجليه حتى إنه أصيب بمرض شديد في شهر رمضان، فنقلوه إلى سجن أوسع مع عموم الناس، ومكث في هذا السجن ثلاثين شهرًا!
 
وفي السجن أخذ رجال الاعتزال ورؤوس الفتنة يأتونه واحدًا تلو الآخر ليناظروه في خلق القرآن، وهو يناظرهم وتعلو حجته حججَهم، وكلما غلبهم في المناظرة اشتدوا عليه وضيقوا عليه وزادوا في قيوده، وبعد عدة أيام وكانوا في شهر رمضان بدأت فصول المناظرة العلنية بحضور الخليفة المعتصم نفسه.
 
ولنا أن نتخيل هذا المشهد المهول الذي حضره الإمام أحمد وحده وكان في مجلس الخليفة المعتصم وفيه كل رجال البدعة والوزراء والقادة والحجَّاب والسيافون والجلادون، وكان الذي بدأ معه الكلام هو المعتصم نفسه وقد حاول استمالته وترغيبه في أول الأمر، ثم أمر علماء البدعة بمناظرته، فهزمهم الإمام كلهم، وهو يحتج عليهم بالآيات والأحاديث والآثار وهم يحتجون بكلام الفلاسفة مثل العرض والجوهر والشيء والوجود والقدم؛ لذلك فقد علت حجتُه حجتَهم والإمام يقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله، وكان قائد الشرطة عبد الرحمن بن إسحاق ـ وهو بالمناسبة ابن إسحاق بن إبراهيم القائد السابق ـ ممن يدافع عن الإمام أحمد ويقول للخليفة المعتصم: يا أمير المؤمنين، أعرفه منذ ثلاثين سنة، وإنه ليرى طاعتك والحد والجهاد معك، وإنه لعالم وإنه لفقيه، ولكن في المقابل كان أحمد بن داود أشد الناس عليه ويحرض المعتصم عليه بشدة ليقتله ويقسم له أنه ضال وكافر ومبتدع.
 
استمرت هذه المناظرة العلنية ثلاثة أيام وكانوا في شهر رمضان، والإمام ثابت لا يتزعزع وخصومه من حوله تتساقط شبههم وبدعهم، حتى كان اليوم الرابع وكان المعتصم قد ضجر من طول المناظرة وأغراه قاضي المحنة أحمد بن داود، حتى وصل التهديد للضرب والجلد، وأحضرت الخشبة والسياط وشد أحمد على العقابين (وهما خشبتان يشد الرجل بينهما للجلد) فخلعت يداه وهو صامد، وعندها أخذت المعتصم شفقة على الإمام وأعجب بثباته وصلابته، ولكن أحمد بن أبي دؤاد أغراه وقال له: يا أمير المؤمنين، تتركه فيقال غلب خليفتين؟! فعمى المعصتم لكلمته الشريرة وأمر بالإمام فأخذ الجلادون في ضربه بالسياط، يتناوبون على ضربه؛ هذا يضربه سوطين والآخر ثلاثة وهكذا، حتى إذا بلغ سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم وقال له: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق، وجعل عجيف أحد قادة الأتراك العسكريين في جيش المعتصم ينخسه بقائمة سيفه ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟! وجعل بعضهم يقول: ويلك إمامك الخليفة على رأسك قائم، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي، اقتله، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم وأنت في الشمس قائم، والمعتصم يقول: ويحك يا أحمد، ما تقول؟! فيجيب الإمام بكل صمود وثبات: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به، فيأمر المعتصم بمواصلة الضرب، ثم قال له المعتصم مرة أخرى: أجبني إلى شيء فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ومع ذلك الإمام صامد، فأخذوا في ضربه حتى أغمي عليه من شدة الضرب وقد تمزق ظهره من لهيب السياط!
 
بعد هذا الثبات العجيب الذي تعجز عن مثله الجبال الراسيات، أمر المعتصم بإطلاق سراحه، ولكن بعد أن فعل شيئًا في منتهى العجب والغرابة، وهو قيامه بإحضار أقارب الإمام أحمد وأهله وجيرانه وأشهدهم على أنه سليم البدن، وذلك خوفًا من ثورة الناس عليه إن حصل للإمام مكروه، هذا على الرغم من قوة المعتصم وشجاعته وسلطته، ولكن قوة الحق وسلطة الصمود وشجاعة الثبات الذي عليه الإمام أحمد كانت أكبر من ذلك كله، وخرج الإمام أحمد وعاد إلى بيته بعد 28 شهرًا من الحبس والضرب من سنة 218هـ حتى سنة 221هـ.
 
والمعتصم وإن كان هو الذي أقدم على ضرب الإمام أحمد إلا أنه لم يكن مثل المأمون مقتنعًا أو معتنقًا لهذه البدعة، وكان يود لو أطلق سراح أحمد بلا ضرب، ولكن رؤوس الضلالة أوغروا صدره وأشعلوا غضبه حتى أقدم على جناية ضرب الإمام، لذلك فلقد جعله الإمام أحمد في حلٍ من هذه الجناية؛ وذلك يوم أن جاءه خبر فتح عمورية سنة 223هـ.
 
الفصل الرابع: الإمام أحمد والواثق العباسي:
ظل أحمد بعد خروجه من سجن المعتصم يعالج في بيته فترة طويلة من آثار الضرب والتعذيب حتى تماثل للشفاء، وأخذ يحضر الجمعة والجماعة ويحدث الناس ويفتي حتى مات المعتصم، وولي مكانه ابنه الواثق، وكان قد تربى في حجر قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد فشربه البدعة منذ صغره، فكان الواثق من أشد وأخبث الناس في القول بالبدعة، حيث أظهرها بقوة وأجبر الناس عليها وأطلق يد أحمد بن أبي دؤاد فيها، فكان يفرق بين الرجل الذي لا يقول ببدعته وبين امرأته ويأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب هذه البدعة الخبيثة، وبلغ الأمر ذروته عندما كان أحمد بن أبي دؤاد يمتحن أسرى المسلمين عند الروم، فمن قال ببدعة خلق القرآن افتداه، ومن امتنع يتركه أسيرًا بيد الروم حتى ضج الناس وضاقت نفوسهم.
 
ثم إن الواثق أمر بنفي الإمام من بغداد وأرسل إليه يقول: «لا يجتمعن إليك أحد ولا تساكنني بأرض ولا مدينة أنا فيها».
 
فخرج الإمام من بيته واختبأ بدار أحد تلاميذه عدة أيام، ثم انتقل إلى موضع آخر فمكث فيه عدة شهور حتى هدأ الطلب عليه، ثم تحول إلى مكان آخر وظل هكذا لا يستطيع أن يخرج إلى صلاة ولا إلى مجلس علم وتحديث حتى هلك الواثق العباسي سنة 231هـ، فخرج الإمام للناس وجلس للتحدث؛ وذلك أن المتوكل الذي ولي بعد الواثق كان على مذهب أهل السنة وقد أمر برفع البدعة وإظهار السنة، وأيضًا لم يسلم الإمام من الفتنة أيام المتوكل ولكنها كانت فتنة بالسراء ليس بالضراء، ذلك أن المتوكل قد أفاض عليه بالأموال والعطايا الجزيلة وحاول استمالته ليسكن مدينة سامراء ويترك بغداد، وأن يتولى تعليم وتأديب ولده «المعتز» ولكن الإمام رفض ذلك بشدة وعانى بسبب هذا الرفض معاناة شديدة.
 
دروس المحنة السلفية الأولى:
وبعد أن سقنا ملخص المحنة نعرج على أهم دروسها لا سيما فيما يتعلق بأمر "السلفية والدولة" وهى كما أسلفنا:
 
1- تبنى الدولة لمذهب باطل لا يجعله حقا وهو يعطى الرخصة لآحاد الناس فى المداراة متى أكره على هذا، ولكن العلماء عليهم بيان الحق.
 
2- عدم التشوف إلى تكفير المخالف لا سيما من الحكام وإن آذى وظلم؛ لما فى ذلك مراعاة لحق "لا إله إلا الله" وتطبيقا للقواعد الشرعية فى العذر بالتأويل.
 
3- عدم الدعوة إلى إسقاط الدولة بزعم ظلمها، بل نهى من أراد ذلك عنه.
 
4- عدم ترك الدعوة إلى الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
 
5- وجوب مراعاة المصالح والمفاسد أيضا حال تلك الدعوة.
 
ومنه استعمال الرفق فى خطاب الحكام أكثر من غيرهم دون إخلال بأصل قضية بيان الحق.
 
وهى أمور واضحة من سياق القصة ولكن لا بأس بأن نزيد كلا منها بيانا على النحو التالى:
 
1- تبنى الدولة لمذهب باطل لا يجعله حقا، وهو يعطى الرخصة لآحاد الناس فى المداراة متى أكره على هذا، ولكن العلماء عليهم بيان الحق:
 
والقصة من أولها إلى آخرها دليل على هذا، ومن النقول الخاصة بعدم جواز التقية لأهل العلم:
 
قال أبو العباس الرقي (وكان من حفاظ أهل الحديث): [إنهم دخلوا على أحمد بالرقة وهو محبوس، فجعلوا يذكرونه ما يروى في التقية من الأحاديث.
 
فقال أحمد: فكيف تصنعون بحديث خباب: «إن من كان قبلك كان ينشر أحدهم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه». قال: فيئسنا منه. ]
 
قال المروذي في محنة أحمد بن حنبل (وهو بين الهنبازين) [يا أستاذ، قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم}.
 
فقال أحمد: يا مروذي: اخرج؛ انظر أي شيء ترى؟!
 
قال: فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقًا من الناس، لا يحصي عددهم إلا الله، والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم.
 
فقال لهم المروذي: أي شيء تعملون؟!
 
قالوا: ننظر ما يقول أحمد، فنكتبه.
 
فقال المروذي: مكانكم.
 
فدخل إلى أحمد بن حنبل وهو قائم بين الهنبازين، فقال: لقد رأيت قوما بأيديهم الصحف والأقلام؛ ينتظرون ما تقول فيكتبونه.
 
فقال: يا مروذي، أضل هؤلاء كلهم؟! أقتل نفسي وألا أضل هؤلاء].
 
 
2- عدم التشوف إلى تكفير المخالف لا سيما من الحكام وإن آذى وظلم؛ لما فى ذلك مراعاة لحق "لا إله إلا الله" وتطبيقا للقواعد الشرعية في العذر بالتأويل:
 
وهى مسألة واضحة من سلوك الإمام مع من امتحنوه، ومع هذا فقد نقل عنه في هذه المسألة أقوال أخر، من المفيد أن نتعرف على توجيه ابن تيمية لها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
 
"فإن الإمام أحمد ـ مثلا ـ قد باشر ‏[‏الجهمية‏]‏ الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا الؤمنين والمؤمنات ـ الذين لم يوافقوهم علي التجهم ـ بالضرب والحبس، والقتل والعزل على الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدى العدو؛ بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم، يكفرون كل من لم يكن جهميًا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، يحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية، ولا يفتدونه من عدو، ولا يعطونه شيئًا من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة، ولا فتيا ولا رواية‏.‏ ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة، والافتكاك من الأسر وغير ذلك‏.‏ فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه‏.‏
 
ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب‏.‏
 
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذى هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون‏:‏ "القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة"‏.‏ وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفّر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل‏.‏ فيقال‏:‏ من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم‏‏" ا.هـ كلام شيخ الإسلام.
 
ومما يُروى من روائع شفقة الإمام بمعذبيه:
قال أبو علي الحسين بن عبد الله الخرقي -وقد رأى أحمد بن حنبل- قال: [بت مع أحمد بن حنبل ليلة، فلم أره ينام إلا يبكي، إلى أن أصبح، فقلت: يا أبا عبد الله، كثر بكاؤك الليلة، فما السبب؟!
 
قال: ذكرت ضرب المعتصم إياي، ومر بي في الدرس {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله}، فسجدتُ، وأحللته من ضربي، في السجود].
 
3-  عدم الدعوة إلى إسقاط الدولة بزعم ظلمها، بل نهى من أراد ذلك عنه:
 
قال حنبل: فلما أظهر الواثق هذه المقالة، وضرب عليها وحبس، جاء نفر إلى أبي عبد الله، من فقهاء أهل بغداد، فيهم: بكر بن عبد الله، وإبراهيم بن علي المطبخي، وفضل بن عاصم، وغيرهم، فأتوا أبا عبد الله، وسألوا أن يدخلوا عليه، فاستأذنت لهم، فأذن لهم، فدخلوا عليه.
 
فقالوا له: يا أبا عبد الله، هيا؛ إن الأمر فشا وتفاقهم، وهذا الرجل يفعل ويفعل، وقد أظهر ما أظهر، ونحن نخافه على أكثر من هذا.
 
وذكروا له أن ابن أبي دؤاد مضى على أن يأمر بالمعلمين بتعليم الصبيان في الكتاب مع القرآن: القرآن كذا وكذا.
 
فقال لهم أبوعبد الله: وماذا تريدون؟!
 
قالوا: أتيناك نشاورك فيما نريد.
 
قال: فما تريدون؟!
 
قالوا: لا نرضى بإمرته ولا بسلطانه.
 
فناظرهم أبوعبد الله ساعة، حتى قال لهم (وأنا حاضرهم): أرأيتم إن لم يتم لكم هذا الأمر، أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه؟! عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم. انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا. واصبروا حتى يستريح برٌّ، ويُستراح من فاجر.
 
ودار بينهم في ذلك كلام كثير لم أحفظه، واحتج عليهم أبوعبد الله بهذا.
 
فقال له بعضهم: إنا نخاف على أولادنا، إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره، ويمحى الإسلام ويدرس.
 
فقال أبوعبد الله: كلا. إن الله -عز وجل- ناصر دينه، وإن هذا الأمر له رب ينصره، وإن الإسلام عزيز منيع.
 
فخرجوا من عند أبي عبد الله، ولم يجبهم إلى شيء مما عزموا عليه أكثر من النهي عن ذلك، والاحتجاج عليهم بالسمع والطاعة، حتى يفرج الله عن الأمة.
 
فلم يقبلوا منه: فلما خرجوا، قال لي بعضهم: امض معنا إلى منزل فلان -رجل سموه- حتى نوعده لأمر نريده.
 
فذكرت ذلك لأبي عبد الله، فقال لي أبي: لا تذهب، واعتل عليهم؛ لا آمن أن يغمسوك معهم؛ فيكون لأبي عبد الله في ذلك ذكر. فاعتللت عليهم، ولم أمض معهم.
 
فلما انصرفوا، دخلت أنا وأبي على أبي عبد الله، فقال أبوعبد الله لأبي: يا أبا يوسف: هؤلاء قوم قد أشربت قلوبهم ما يخرج منها فيما أحسب، فنسأل الله السلامة. ما لنا ولهذه الأمة، وما أحب لأحد أن يفعل هذا.
 
فقلت له: يا أبا عبد الله، وهذا عندك صواب؟!
 
قال: لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر.
 
ثم قال أبوعبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن وليت أمره فاصبر». وقال عبد الله بن مسعود: كذا.
 
وذكر أبوعبد الله كلاما لم أحفظه.
 
قال أبو علي حنبل: بل، فمضى القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يُحمَدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، اختفوا من السلطان، وهربوا، وأُخِذ بعضهم فحبس، ومات في الحبس.]
 
4- عدم ترك الدعوة إلى الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا:
 
ومن اللطائف التى تروى فى ذلك قصة تتلمذ الإمام بقى بن مخلد على يد الامام أحمد وهو محدد الإقامة، قال الذهبي رحمه الله: ( ورحل الإمام بقي بن مخلدٍ رحمه الله على قدميه من الأندلس إلى بغداد لأجل ملاقاة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وطلب العلم على يديه، قال بقيّ : فلما اقتربت من بغداد وصل إليّ خبر محنة الإمام أحمد وعلمت أنه ممنوع من الاجتماع بالناس وتدريسهم فاغتممت لذلك كثيرًا فلما وصلت إلى بغداد وضعت متاعي في غرفةٍ ثم خرجت أبحث عن منزل أحمد بن حنبل فدُللت عليه فطرقت الباب ففتح لي الباب الإمام أحمد نفسه، فقلت: يا أبا عبد الله، رجل غريب الدار وطالبُ حديث ومقيد سُنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك؛ فقال لي: ادخل ولا يراك أحد، فسألني وقال: أنا ممتَحنٌ وممنوع من التدريس والتعليم، فقلت له: أنا رجلٌ غريب فإن أذنت لي آتيك كل يوم في لباس الفقراء والشحاذين وأقف عند دارك وأسأل الصدقة والمساعدة فتخرج إليّ وتحدثني ولو بحديث واحد، فقال بقي: فكنت آتي كل يوم فأقف على الباب وأقول: الأجر رحمكم الله، فكان أحمد يخرج إليَّ ويُدخلني الممر ويحدثني بالحديثين والثلاثة وأكثر حتى اجتمع لي قُرابة ثلاثمائة حديث، ثم إن الله رفع الكربة عن الإمام أحمد وانتشر ذكره فكنت إذا أتيت الإمام أحمد بعد ذلك وهو في حلقته الكبيرة وحوله طلاب العلم كان يُفسح لي مكانًا ويقربني منه ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب العلم).
 
5- وجوب مراعاة المصالح والمفاسد أيضا حال تلك الدعوة، ومنه استعمال الرفق في خطاب الحكام أكثر من غيرهم دون إخلال بأصل قضية بيان الحق:
 
ومما يروى فى ذلك قال حنبل: [فلما مات المعتصم، وولي ابنه هارون الواثق، أكثر الناس من الأخذ عن الإمام أحمد؛ فشق ذلك على أهل البدع، فكتب الحسن بن علي بن الجعد قاضي بغداد إلى ابن أبي دؤاد: أن أحمد قد انبسط في الحديث، فلما بلغ أبا عبد الله، أمسك عن التحديث من نفسه، من غير أن يمنع].
 
ومما يروى فى اللين مع السلطان أكثر من غيره:
 
قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: لما أدخلت على المعتصم، قال لي: ادنه، ادنه. فمكثت قليلًا، ثم قلت: تأذن لي في الكلام. فقال: تكلم...].
 
قال حنبل: قال أبوعبد الله: وكان إذا كلمني ابن أبي دؤاد لم أجبه، ولم ألتفت إلى كلامه، وإذا كلمني أبو إسحق ألنت له القول والكلام].
 
خاتمة:
وبعد عرض هذا السلوك الراقى والفقه العظيم لإمام أهل السنة فى قيامه بالحق ومراعاته للمصالح والمفاسد فى ذات الوقت، وابتعاده عن الهوى فى تكفير المخالفين، بل وصل الأمر إلى الدعاء لهم فى الصلاة بالعفو والمغفرة، وفى مراعاة حال مصلحة عموم الخلق فى استقرار دولهم وإن كان فيها بدعة وظلم- قد يطرح سؤال حول مدى انطباق هذا الفقه على حال المسلمين فى الدولة الحديثة التى قامت على أسس مخالفة لما قامت عليه الدولة العباسية التى تعرضنا لتجربة ابن حنبل معها.. وهذا ما سنفرد له مقالة أخرى بإذن الله تعالى.