عالمية الإسلام وحقوق الإنسان

  • 160

إن قول الله عز وجل: "إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ" يتضمن قضية عظيمة الأهمية بالنسبة إلى فهم المؤمن -و خصوصًا الداعي- لحقيقة هذا الدين وحدود دعوته، ألا وهي قضية عالمية دعوة الإسلام؛ فالإسلام قد جاء ليعم الأرض كلها، دعوةً في البداية وسلطانًا في النهاية، وقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، ولا بد أن تصل الرحمة إلى جميع العالم، لا تختص بقوم دون قوم، ولا بلد دون بلد، فليس هناك (شئون داخلية) للأمم لا دخل للإسلام بها، إن دعوة الإسلام هي دعوة النوع الإنساني بأسره، ورسولهم محمد صلى الله عليه وسلم رسول إلى الإنس والجن: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ".
 
وأرض الإسلام التي يجب على المسلمين أن يحرروها مِن عبادة الطواغيت هي الكرة الأرضية كلها، إن الأرض أرض الله، والخلق كلهم عباد الله؛ فلا بد أن يَعْلوهم شرعه ودينه، فمن شاء بعد ذلك أن يكفر فلا يحق له أن يفرض كفره على غيره، وعلى أجيال مِن البشر قادمة، يعمي عليها الحق، ويلبس بالباطل والخداع الذي يسمى الإعلام، وما هو إلا (تجهيل) وتزوير؛ حتى يرى الناس الحق باطلًا، والنور ظلامًا، ويجعل أشقى طرق الحياة هي الطرق المثلى كما قالها آل فرعون: "إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى"، ولكي يحجب عن الخلق نور الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وليعيش البشر أسوأ –والله- مِن حياة البهائم، بل حياة الشياطين،
 
فهل مِن ظلم للبشرية أشد مِن أن تترك هكذا محرومة مِن هذا الدين إذا تصور أصحابه –وليسوا حينئذٍ بأصحابه حقًّا- أن دعوته قاصرة على أممهم وبلادهم، الأمر الذي لو وجد عند الصحابة رضي الله عنهم لما دخل الناس في الإسلام؟
 
إن عالمية دعوة الإسلام نابعةٌ مِن حقيقة الغاية التي خُلِق مِن أجلها البشر، وهي عبادة الله عز وجل كما قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"؛ فلا يجوز أن يحرم الإنسان مِن هذا الذكر، الذي يتذكر به العالم حقيقة الحياة والوجود والبداية والنهاية، وكيف يعيش الحياة التي أرادها خالقها ومبدعها سبحانه؟
 
إن عالمية دعوة الإسلام نابعة مِن حقيقة القرآن، وأنه الكتاب الذي أنزله الله ليحكم بين الناس –كل الناس- فيما اختلفوا فيه، وأنه النور المبين الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم مِن الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
 
إن حق البشرية في الرحمة المهداة -صلى الله عليه وسلم- حق متساوٍ لكل إنسان، مكفولٌ لكل طلب، مثل الهواء والماء وضوء الشمس؛ لأنهم لو حرموا هذه الأشياء لضاعت عليهم حياة أبدانهم، وهي حياة يسبقها الفناء ويعقبها الفناء، وأما إذا حُرِموا مِن الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ضاعت عليهم حياتهم الأبدية التي هي حقيقة الحياة "يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي"، فضلًا عن ضياع سعادتهم في حياتهم الدنيا، وحصول الشقاء مِن كل وجه، ولو نالوا كل الشهوات.
 
وإذا استحضرنا أن سورة يوسف مِن السور المكية التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محصور بمكة، والدعوة لم تجد الأرض التي تؤوي أصحابها بعد، بل هم قليلٌ مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، ومع هذا تنزل فيها هذه الآية، وأمثالها في القرآن كثير؛ كقوله تعالى: "إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ" في سورة ص وهي مكية، وقوله: "وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ" في سورة القلم وهي مكية مِن أوائل ما نزل –نزلت بعد المدثر-، وقوله: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" في سورة الأنبياء وهي مكية، وكذا قوله: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً" في سورة الأعراف وهي مكية،
 
إذا استحضرنا هذا كله علمنا أن هذه القضية بُيِّنَت أوضح بيان مِن بداية الدعوة، وفي أول طريقها المحفوف بالمكاره، بغض النظر عن إمكانية التطبيق في هذا الوقت،
 
إنها لا بد وأن تكون واضحة في أنفس المؤمنين والدعاة، خصوصًا منذ البداية؛ ليستعدوا بالهمة العالية والعزيمة الصادقة على السير في الطريق الطويل، حتى ولو لم تكن وسائل السير وطرق تحقيق هذا الأمر ظاهرة في الأفق.
 
إن هذه الأمة تُهيَّأ لتقود العالم بأسره، وللشهادة على الناس، فلا بد وأن يعرفوا دورهم وحجمهم الحقيقي، وحجم العبء الذي كلفوا به، ليعدوا للأمر عدته،
 
إنهم لو ظنوا ان حدود دعوتهم –مثلًا- جزيرة العرب، لكانت همتهم وبالتالي سعيهم على قدر ذلك،
 
وكذلك لو ظن العاملون في العمل الإسلامي اليوم أن دورهم هو –مثلًا- مسجدهم أو حيهم أو مدينتهم أو قريتهم أو حتى إقليمهم؛ فستكون همتهم وبالتالي سعيهم على قدر ذلك.
 
لكنهم إذا أيقنوا أن الإسلام ما هو إلا ذكر للعالمين، وأن دورهم هو توصيله –نقيًّا كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى أهل الأرض كلهم، كانت حميتهم وبالتالي سعيهم على قدر ذلك.
 
إن هذا الفهم هو الذي جعل الصحابة رضي الله عنهم ينطلقون في المشارق والمغارب نشرًا للإسلام، وجهادًا لإعلاء كلمة الله، وتعليمًا وتربيةً للأمم والشعوب، حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا.
 
وإن هذه الهمة هي التي جعلت مثل عقبة بن نافع يقف على شاطئ الأطلسي بجواده، ويدخل المحيط خطوات مبينًا رغبته في أن يخوض غمار هذا البحر المحيط، لو يعلم أن وراءه أرضًا ينشر فيها الإسلام ويجاهد في سبيل الله،
 
وهي التي جعلت مثل صلاح الدين بعد أن ينتصر على الصليبيين يُحدِّث نفسه ورفاقه أنه ينوي أن يركب البحر ليصل إلى عمق بلاد الفرنجة، ويُجاهد في سبيل الله؛ حتى لا يبقى أحد يعبد غير الله إلا أسلم أو دفع الجزية.
 
قد تكون الإمكانيات في بعض الأحوال حائلا دون تطبيق ذلك، ولكن لا بد أن يظل الشعور بلزوم نشر الإسلام في العالمين كلهم وتذكيرهم جميعًا بكتاب الله حيًّا في القلوب مُوَرَّثًا عبر الأجيال، فإن صراع المناهج والملل لا تحسمه القوة المادية؛ فإن موازين القوى تتغير في لحظات، وإنما يحسمه حال القلوب وعزمها وصدقها وثباتها ويقينها.
 
إن الانكسار الحقيقي الذي يُريده الأعداء بنا ليس هو انكسار الجيوش والأفراد -ولو وضعوهم في السجون وكبلوهم بالقيود-، وإنما يريدون كسر النفوس والأفكار والمعتقدات، يريدون أن يركن أهل الإسلام إلى باطلهم؛ فينطفئ النور الذي يعمّهم فيحلَّ الظلام الذي يريده هؤلاء الأعداء: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ"، "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ".