يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ (2)

  • 188

وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا
قال تعالى: ?وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا?.
قوله تعالى: ?وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا? فيه عِدَّة تفسيرات، وكلها جميلة رائعة، ومتلازمة عند مَن يتأملها.
 
قال ابن كثير رضي الله عنه: «وقوله: ?وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا? قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ?وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا? يقول: ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك، وزاد: لا يقدر عليها غيرنا، وزاد قتادة: رُحِم بها زكريا.
وقال مجاهد: ?وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا? وتعطفًا من ربه عليه».
 
فالمعنى الأول أن يحيى عليه السلام جعله الله حنانًا من عنده لزكريا، ورحمة من عنده واسما الحنَّان والمنَّان قد وردا وإن كانت بعض الأحداث فيها ضعف إلا أنها لها طرق متعددة تثبت أن الله عز وجل حنَّان منَّان، منها ما رواه أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: كنت جالسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلقة ورجلٌ قائمٌ يصلي، فلما ركع وسجد؛ جلس وتشهَّد، ثم دعا فقال: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنَّان، بديعَ السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيُّومُ، إني أسألك»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدري بِمَ دَعَا؟»، قالوا: الله وسولهُ أعلم، قال: «والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه العظيم، الذي إذا دُعِي به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى»، وفي رواية ابن حبان: «الحنانُ المنان».
 
وقد ورد التحنن في السُّنَّة أيضًا، من ذلك ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا وفيه: «ثم يتحنن الله برحمته على من فيها –أي: النار-، فما يترك فيها عبدًا في قلبه حَبَّةٍ من إيمانٍ إلا أخرجهُ منها».
 
أمَّا المنُّ فكثير في القرآن، قال تعالى: ?وَلَ?كِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى? مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ? (إبراهيم: 11)، وقال : ?يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ? (الحجرات: 17)، وقال: ?وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا? (القصص: 82).
 
فيحيى حنانٌ؛ لأنه من رحمته عز وجل وتحنُّنه على زكريا، فسُمِّي رحمة؛ لأنه كان بسبب الرحمة، ويُسمى الإنسان رحمة، أو يسمى المخلوق رحمة؛ لأنه نشأ عن الرحمة، لا أن المخلوق نفسه هو صفة الله، ولكن يسمى باسم الصفة وهو مخلوق؛ لأنه نشأ عنها.
 
وهذا كما تقول: هذا خَلْق الله، بمعنى المخلوق، والخلق بمعنى الفعل، فالله عز وجل خلق الخلق، وفِعله سبحانه وتعالى ليس بمخلوق، كما قال الله عز وجل عن المطر: ?فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا? (الروم : 50)، وقال عن الجنة في الحديث القدسي: «أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاءُ»، وقال النبي صل الله عليه وسلم: «إن لله مائةَ رحمةٍ أنزل منها رحمة واحدةً بين الجنِّ والإنسِ والبهائم والهوامِّ، فبِها يتعاطفون، وبها يتراحمونَ، وبها تعطفُ الوحشُ على وَلَدِها، وأخَّرَ اللهُ تسعًا وتسعينَ رحمةً يرحمُ بها عبادهُ يومَ القيامة»ِ، فكل هذه رحمة مخلوقة، وقد قال الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: ?بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ? (التوبة: 128)، فالله يجعل من شاء من عباده رحيمًا.
 
وأنت أيضًا تقول: سبحان الله هذه قدرة الله، وأنت تقصد آثار القدرة، ولا تقصد من ذلك الصفة، وكما أن عيسى عليه السلام كلمة الله؛ لأنه كان بكلمة من الله، فخلقه الله سبحانه وتعالى بكلمة «كن»، وليس أن عيسى هو «كن»، وهذا كثير في القرآن.
 
فالمعنى الأول: ?وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا? يعني: من عند الله عز وجل، فيحيى عليه السلام حنان ورحمة رحم الله عز وجل بها زكريا.
 
قال ابن كثير رحمه الله: «وقال عكرمة : ?وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا? قال: محبة عليه، وقال ابن زيد: أما الحنان فالمحبة.
وقال عطاء بن أبي رباح: ?وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا?، وقال: تعظيمًا من لدنا.
 
وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة، عن ابن عباس قال: لا والله ما أدري ما «حنانا».
 
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور: سألت سعيد بن جبير عن قوله: ?وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا?، فقال: سألت عنها عباس فلم يحر فيها شيئًا».
 
وهذا فيه ضعف، والظاهر أن ابن عباس رضي الله عنهما قد تكلم في تفسير هذه الآية، ولكن ربما جاء عليه وقت حين سُئِل لم يدر ما يقول أو يرجِّح أي قول من الأقوال المحتملة.
 
قال ابن كثير رحمه الله: «والظاهر مِن هذا السياق أن ?وَحَنَانًا? معطوف على قوله: ?وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا? أي: وآتيناه الحكم وحنانًا، ?وَزكَاةً? أي: وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفق وميل، كما تقول العرب: حنَّت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها، ومنه سميت المرأة حَنَّة مِن الحَنَّة، وحنَّ الرجلُ إلى وطنِهِ، ومنه التعطُّف والرحمة، كما قال الشاعر:
تَحنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَليكُ *** فَإنَّ لكُلِّ مَقامٍ مَقَالًا».
 
وفي المسند للإمام أحمد، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَبْقَى رَجُلٌ فِي النَّارِ يُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ: يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ».
 
وقد يُثنَّى، ومنهم من يجعل ما ورد مِن ذلك لغة بذاتها، كما قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا *** حنانيك بعض الشر أهون من بعض
 
فالحنان هنا من صفة يحيى، فهو عليه السلام عنده حنان بالخلق ورحمة بهم، وعنده تعارف على الناس، وهو في الحقيقة أثر مِن آثار رحمة الله به؛ فمَن جعل الله في قلبه رحمة فهذا مِن رحمة الله عز وجل به، ومَن جعل الله في قلبه قسوة فهذا مِن عقوبة الله له.
 
أتظن أن مَن يؤذي الخلق ويعذبهم ويظلمهم يكون محرومًا؟ لولا أنه أول المعذبين لما جُعِل كذلك، ولذلك سوف تجد الجبار قرين الشقي، ولذلك نفى الله عنه أن يكون جبارًا شقيًّا، وجعل الله عز وجل في قلبه رحمة فهو مرحوم، وأول المعذَّبين هم الذين يعذِّبون الناس الناس، وأول الأشقياء التعساء الجبارون، وأول مَن يكون في نفسه هالكًا معذبًا شقيًّا تعيسًا في حياته هو الذي يُدخل الأذى على الخلق ويُعذِّبهم، وهذا عدل مِن الله سبحانه وتعالى، فمَن يظلم مِن الناس ويؤذيهم ويجبرهم على رأيه وضلاله بلا دليل مِن عند الله عز وجل على خطر عظيم.
 
فمِن تَحَنُّنِ الله على عبده أن يؤتيه حنانًا، ومِن رحمة الله به أن يجعل في قلبه رحمة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم مَن في السماء»، فلولا أن الله يريد أن يرحمهم لما جعل في قلوبهم رحمة.
 
وقوله تعالى: ?مِنْ لَدُنَّا? مِن أدلة الاجتباء والاصطفاء، فما كان مِن عند الله عز وجل فهو غالٍ عظيم القدر ذو فضل، فهذا الحنان إذا أعطيه يحيى مِن زكريا مِن عند الله عز وجل فهو مِن أعظم ما يوصف، ومِن أعظم ما يُعطى لإنسان.
 
·      ?وَزكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا?:
قال ابن كثير رحمه الله: «وقوله: ?وَزكَاةً? معطوف على ?وَحَنَانًا?؛ فالزكاة: هي الطهارة مِن الدنس والآثام والذنوب.
وقال قتادة: الزكاة العمل الصالح.
وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي.
وقال العوفي عن ابن عباس: ?وَزكَاةً? قال: بركة، ?وَكَانَ تَقِيًّا? طهر، فلم يعمل بذنب».
 
الزكاة: طهارة النفس، والزكاة: الصلاح والعمل الصالح، وكلما تطهر الإنسان مِن أمراض القلوب ومِن أمراض النفس الإنسانية التي مبناها على الظلم والجهل؛ كلما كان أقرب إلى الله عز وجل، وكما قال تعالى: ?وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ? (فاطر: 18)، فالمقصود هنا زكاة القلوب والنفوس وأولها التوحيد، كما قال الله تعالى: ?وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ? (فصلت: 6، 7) قال ابن عباس وغير واحد: «الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله»، فهم لا يؤتون زكاة النفوس التي أصلها توحيد الله عز وجل.
 
وقوله تعالى: ?وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً? مِن الأدلة على خلق أفعال العباد؛ لأن الفهم والحنان والزكاة مِن أفعال العبد؛ فالعبد يفهم، والعبد يتحنن ويتعطف، والعبد يتزكى، والله عز وجل آتاه ذلك الفهم، وآتاه الحنان، وآتاه الزكاة، وكل ذلك دليل على خلق أفعال العباد.
 
وقوله تعالى: ?وَكَانَ تَقِيًّا?: التقوى هي أن تعمل بطاعة الله على نور مِن الله ترجو ثواب الله، وأن تجتنب معاصي الله على نور مِن الله تخاف عقاب الله، وتقوى الله عز وجل مِن أعظم المنن التي يمن الله بها على عبده.