• الرئيسية
  • المقالات
  • من شبهات أعداء السُّنَّة... قولهم: إن القرآن قد حوى كل شيء من أمور الدين فلا حاجة إلى السُّنَّة

من شبهات أعداء السُّنَّة... قولهم: إن القرآن قد حوى كل شيء من أمور الدين فلا حاجة إلى السُّنَّة

  • 177

إن شبهات أعداء السُّنَّة تُذَكِّرنا بالمثل المشهور: «الغريق يتعلق بالقشة» والقشة جزء صغير من حطام النبات، وهي تمثل منتهى الضعف، ولذلك كان العرب يصفون الأمر الهيِّن الذي يكون سببًا في هلاك صاحبه بالقشة، ويقول: «القشة التي قصمت ظهر البعير»؛ أي: تسببت في تحطيم كائن عظيم، هو «البعير».
 
ومنكرو السُّنَّة في تصيُّدهم الشبهات لإنكارها، ذكَّرونا بالمثل الأول: «الغريق يتعلق بالقشة» والقشة لا تنقذ الغريق من الغرق، بل سيجذبها معه الغريق إلى قاع البحر، والمراد من هذا المثل عند مُرَدِّديه، أن الغريق لما فقد كل وسيلة لإنقاذه، ولم يبصر إلا قشة، حمَلَه اليأسُ على التمسك بها. ولعل وعسى. كذلك منكرو السُّنَّة تراهم يتهافتون وراء اقتناص الشبهات لإنكار السُّنَّة، مهما كانت تافهة، ضعيفة ولسان حالهم يقول: «لعلَّ وعسى».
 
ومن الشبهات التي يرددها المستشرقون و أذنابهم هو ما فهموه من قوله تعالى: ?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ? (الأنعام: 38)، وقوله سبحانه: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ? (النحل: 89). فقالوا: إن هذه الآيات وأمثالها تدل على أن القرآن الكريم قد حوى كل شيء من أمور الدين، وكلَّ حُكم من أحكامه، وأنه بيَّن ذلك وفصَّله بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر، وإلا كان الكتاب مفرِّطًا فيه، ولما كان تبيانًا لكل شيء، فيلزم الخُلْف في خبره سبحانه وتعالى.
 
الرد على هذه الشبهة و تفنيدها:
 
وجوابًا على هذه الشبهة يُقال: ليس المراد من الكتاب في قوله تعالى: ?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ? القرآن، وإنما المراد به اللوح المحفوظ؛ فإنه هو الذي حوى كل شيء، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على التفصيل التام، بدلالة سياق الآية نفسها؛ حيث ذكر الله عز وجل هذه الجملة عقب قوله سبحانه: ?وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ?؛ أي: مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم كل ذلك مسطور مكتوب في اللوح المحفوظ لا يخفى على الله منه شيء.
 
وعلى التسليم بأن المراد بالكتاب في هذا الآية القرآن، كما هو في الآية الثانية وهي قوله سبحانه: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ? فالمعنى أنه لم يُفرِّط في شيء من أمور الدِّين وأحكامه، وأنه بيَّنها جميعًا بيانًا وافيًا.
 
ولكن هذا البيان إما أن يكون بطريق النَّصِّ مثل بيان أصول الدين وعقائده وقواعد الأحكام العامة، فبيَّن الله في كتابه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وحِلِّ البيع والنكاح، وحرمة الرِّبا والفواحش، وحِلِّ أكْل الطيبات وحُرْمة أكل الخبائث على جهة الإجمال والعموم، وتَرَك بيان التفاصيل والجزئيات لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو معنى قوله سبحانه: ?لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?.
 
ولهذا لما قيل لمُطَرِّف بن عبد الله بن الشِخِّير: «لا تُحَدِّثونا إلا بالقرآن»، قال: «والله ما نبغي بالقرآن بدلًا ولكن نريد مَن هو أعلم منا بالقرآن». وروي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل يحمل تلك الشبهة: «إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعًا لا يُجهَر فيها بالقراءة؟!»، ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: «أتجد هذا في كتاب الله مُفسَّرا، إن كتاب الله أبهم هذا وإن السُّنَّة تفسر ذلك».
 
وإما أن يكون بيان القرآن بطريق الإحالة على دليل من الأدلة الأخرى التي اعتبرها الشارع في كتابه أدلة وحُجَجًا على خلقه. فكل حكم بيَّنَتْه السُّنَّة أو الإجماع أو القياس أو غير ذلك من الأدلة المعتبرة، فالقرآن مبَيِّن له حقيقة؛ لأنه أرشد إليه وأوجب العمل به، وبهذا المعنى تكون جميع أحكام الشريعة راجعة إلى القرآن.
 
فنحن عندما نتمسك بالسُّنَّة ونعمل بما جاء فيها إنما نعمل في الحقيقة بكتاب الله تعالى، ولهذا لما قال عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوتَشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ، لِلْحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ» فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: «إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ»، فَقَالَ: «وَمَا لِي أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ»، فَقَالَتْ: «لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ»، قَالَ: «لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: ?وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا? (الحشر: 7)؟» قَالَتْ: «بَلَى»، قَالَ: «فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
 
إن القرآن الكريم قد حوى أصول الدين وقواعد الأحكام العامة، ونَصَّ على بعضها بصراحة، وترك بيان بعضها الآخر لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وما دام الله سبحانه وتعالى قد أرسل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لِيُبَيِّنَ للناس أحكام دينهم، وأوجب عليهم اتباعه، كان بيانه للأحكام بيانًا للقرآن، ومن هنا كانت أحكام الشريعة من كتاب وَسُنَّةٍ وما يلحق بهما ويتفرع عنهما من إجماع وقياس أحكامًا من كتاب الله تعالى، إما نصًّا وإما دلالةً، فلا مُنَافَاةَ بين حُجِّيَّةِ السُّنَّة وبين أن القرآن جاء تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ.
 
وللحديث بقية إن شاء الله؛ لاستكمال سلسلة رد سهام اللئام عن سنة خير الأنام عليه الصلاة والسلام.