مِن شُبُهَات أعداء السُّنَّة: زعمهم بأن مصدر السُّنَّة ليس معصومًا!

  • 192

هذه الشبهة مما ردده منكرو السنة المعاصرون، وعوَّلوا عليها كثيرًا في النَّيْل مِن السُّنَّة، والطعن في أساسها، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس لهم مِن سندٍ يتكئون عليه في هذا المكر الخبيث إلا حديث تأبير النخل المعروف، فقالوا -وبئس ما قالوا-: لو كان كل ما قال النبي أو صدر عنه مِن أفعال وحيًا مِن السماء، فماذا عن حادثة تأبير النخل، ونهْى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التأبير مما أدى إلى فساد المحصول، وتعقيبه صلى الله عليه وآله وسلم بالقول: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» وإذا كان موحى من الله فهل كان الله يناقض نفسه؟
 
وقالوا -وبئس ما قالوا-: لقد كان قول النبي «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» اعتذارًا مهذبًا بأدب نبوي، عن خطأ بشري ارتكبه بنَهْيه عن تأبير النخل، وفساد المحصول على أصحابه، بكلام بشري لا عصمة فيه عن الخطأ والسهو والنسيان؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان إنسانًا لا إلهًا.
 
هذا كلامهم، وهم يتحدثون عن خاتم النبيين وكأن بينهم وبينه صلى الله عليه وآله وسلم ثأرًا يحاولون التَّشفِّي منه؛ قاتلهم الله. إن مرادهم بأن ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس وحيًا، هو نَفْيُ العصمة عنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه بشر، والبشر يخطئون ويصيبون. إذن فالرسول ليس معصومًا من الخطأ، وحديث تأبير النخل ساقوه دليلًا على صحة دعواهم، لا أنه هو الحديث الوحيد الذي قد أخطأ فيه، بل إن هذا الخطأ يسري -عندهم- على كل ما صدر عنه مما رواه الثقات مِن علماء الحديث!
 
قصة الحديث:
 
عَنْ أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ». قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: «مَا لِنَخْلِكُمْ». قَالُوا: «قُلْتَ كَذَا وَكَذَا»، قَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ». (رواه مسلم).
 
قصة هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ في المدينة على قوم يؤبرون النخل- أي: يلقحونه- فقال: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ»، فامتنع القوم عن تلقيح النخل في ذلك العام ظنًّا منهم أن ذلك من أمر الوحي، فلم ينتج النخل إلا شيصًا –أي: بلحًا غير ملقح، وهو تمر ردئ مُرٌّ لا يُؤْكل-، فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الصورة سأل عما حدث له فقَالُوا: «قُلْتَ كَذَا وَكَذَا»، فقَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».
 
وفي صحيح مسلم أيضًا عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ: «مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ؟» فَقَالُوا: «يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا».
 
قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».
 
وَفِي رِوَايةٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ نَبِىُّ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ: «مَا تَصْنَعُونَ؟» قَالُوا: «كُنَّا نَصْنَعُهُ». قَالَ: «لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا». فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ». (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). (فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ) مَعْنَاهُ أَسْقَطَتْ ثَمْرَهَا.
 
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
 
إن هؤلاء الجهلة الأغمار، أو الزنادقة الأشرار، لا يتورعون في الإساءة إلى سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عن أي شيء يقولون مهما كان من المنكر والزور. وقد تصدى لهم مِن قبل العلامة المحقق الكبير أحمد محمد شاكر رحمه الله فقال فيهم ما نَصُّه: «هذا الحديث مما طَنْطَنَ به ملحدو مصر وصنائعُ أوربَّة فيها، من عبيد المستشرقين وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلًا يَحُجُّون به أهل السُّنَّة وأنصارَها، وخُدَّامَ الشريعة وحُماتِها، إذا أرادوا أن يَنفوا شيئًا من السُّنَّة، وأن يُنكروا شريعة من شرائع الإسلام، في المعاملات وشئون الاجتماع وغيرها: يزعمون أنَّ هذه من شئون الدنيا! يتمسَّكون برواية أنس: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»؛ واللهُ يعلم أنَّهم لا يؤمنون بأصل هذا الدين.
 
والحديث واضح صريح، لا يعارض نصًّا، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسُّنَّة في كل شأن؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فكلُّ ما جاء عنه فهو شرع وتشريع: ?وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا? (النور: 54)؛ وإنَّما كان في قصة تلقيح النخل، أنْ قال لهم: «مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا»، فهو لم يأمر ولم يَنْهَ، ولم يخبر عن الله، ولم يَسُنّ في ذلك سُنَّة، حتى يُتوسَّع في هذا المعنى إلى ما يُهدَم به أصلُ التشريع، بل ظنَّ، ثم اعتذر عن ظنِّه، قال: «فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ»؛ فأين هذا مما يرمي إليه أولئك؟! هدانا الله وإيَّاهم سواء السبيل» (شرح المسند:2/364-365.(
 
وقد ردَّ كثير من العلماء المعاصرين -من مختلف أنحاء العالم الإسلامي- على هذا التفسير المنحرف منذ تصدير المستشرقين له إلى عالمنا الإسلامي وإلى اليوم، وأجابوا عنه بأجوبة عامَّة وخاصَّة، وفنَّدوه تفنيدًا؛ فبيَّنوا أنَّه معنى باطل، لم يقُل به أحدٌ من علماء الإسلام ولا شُرَّاح الحديث على مرِّ تاريخ المسلمين؛ بل هو مناقضٌ لنصوص الكتاب والسنة، التي تُبيِّن أحكام الإسلام وقواعده الحاكمة لجميع شئون الحياة.
 
ومن المتقرِّر في قواعد الشريعة: أنَّ النص الشرعي لا يجوز تفسيره بمعزل عن بقية النصوص، ولا بمعزل عن القاعدة الكلية العظيمة: أنَّ كلَّ ما صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو تشريع، إلا ما استثناه الدليل. وبيَّنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صرَّح في هذا الحديث بأنَّ نَهْيَه عن التأبير هنا إنَّما كان ظنًّا ولم يكن تشريعًا.
 
كما بيَّنوا أنَّ حديث «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»؛ إنَّما جاء فيما يتعلق بفنون الزراعة، وتثمير الأشجار، وما في معنى ذلك من الصنائع والأمور المادية المتعلقة بالكون ونواميسه وسننه، التي تكشفها التجارب العملية والمختبرات العلمية؛ وأنَّها متروكة لأهل الاختصاص والعلم التجريبي فيما يتعلق بطبيعتها وكيفية الإفادة منها. وأنَّها مع ذلك خاضعة في بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بها، للقاعدة الشرعية الشهيرة: «الأصل في المنافع الإباحة، حتى يثبت النهي».
 
فجزى الله علماء الإسلام العاملين المتقين عنَّا خيرًا، فقد كانوا حماة للعقيدة، حراسًا للشريعة؛ فما يظهر باطل إلا ويتهافت بين يدي علمهم. فبقيت أحكام الإسلام ظاهرة نقيَّة، متوقِّدة، تنير السبيل، وتهدي الحيارى.
 
ليس في الحديث دليل:
 
وحديث تأبير النخل، الذي توهموا أنه دليل لهم على نفي العصمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس لهم فيه دليل، بل هو دليل على جهلهم وعنادهم، شعروا أو لم يشعروا. وإن خيبة الأمل ملازمة لهم في كيدهم للسنة وصاحبها، والأمة جميعًا وويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون.
 
إن هذا الحديث لم يُرِدْ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم التبليغَ عن الله، ولا وَضْعَ قاعدة فقهية، ولا بيان حكم شرعي، وإنما هو رأْيٌ أبداه حول أمور تخضع للتجارب، وعمل العقل، فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبعث خبيرًا زراعيًا، ولا هذا من شأن الرسل والرسالات والأعمال الدنيوية البحتة لم ينزل الله فيها كتابًا، ولم يرسل من أجلها رسلًا، وإنما هي أمور يمارسها الإنسان بحرية، وينتقل من تجربة إلى تجربة ويرصد النتائج، ويختار الأصلح.
 
هذا هو مجال العقل والعلم التجريبي، لا يتدخل فيه الشرع إلا فيما يتعلق بالحِلِّ والحُرمة، والجواز والكراهة، يبين هذا كله قوله صلى الله عليه وآله وسلم لـمَّا راجعه أصحاب النخل حين لم يكتمل لهم تمرهم بعد أن تركوا التأبير: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْيي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ». وقال: «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».
 
هذا هو فقه هذه المسألة، ومنه يظهر جليًا أن منكري السنة قد ضلوا وأضلوا في دعواهم نفي العصمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرددين مزاعم خصوم الإسلام من المبشرين الحاقدين والمستشرقين الحاسدين، والعلمانيين الجاهلين. وسيذهب كيدهم، ويبقى الحق شامخًا حتى قيام الساعة.
 
هَلْ يَضرُّ البَحْرَ أَمْسَى زَاخِرًا *** إِنْ رَمَى فِيهِ غُلَامٌ بِحَجَرْ؟!
 
وللحديثِ بقية إن شاء الله؛ لاستكمال سلسلة «رد سهام اللئام عن سنة خير الأنام عليه الصلاة والسلام».