في مواجهة الفتن

  • 161

تحيط بنا –نحن معشر المنتسبين إلى الالتزام بالدين- أنواع كثيرة مِن الفتن ومن أشدها خطورة:
الفتنة بضعف الالتزام ومحدوديته
بأن يَقْنَع أحدنا بالالتزام في جانب صغير من جوانب حياته؛ كجانب الهيئة والشكل أو بعض معاني الطاعات, كأن يكون محافظًا على الصلوات في أوقاتها في جماعة، أو يكون تاركًا لبعض المحرمات الظاهرة؛ كسماع المعازف والنظر إلى وسائل الإفساد, ولا شك أن هذا مِن الالتزام وهو مطلوب، ولكن الفتنة أن يظن أن هذه الطاعات -التي صارت علامات مميزة للمسلم الملتزم- هي الالتزام؛ فتجد منه ضعفًا في جوانب أخرى مِن الالتزام, بل تجد منه ازدواجية في الشخصية أحيانًا؛ فعندما يتعامل مع مَن حوله, أو عند حصول  المنازعات, فإنك تجد شخصًا آخر غير الذي تراه في المسجد, وكذلك في الأخلاق, تجد بين الإخوة مَن يخلف الوعد, أو يضيع الأمانة, أو يَعُق والديه, أو يُسيء الجوار, بل تجد مَن يكذب في الحديث، ويفجر في الخصومة, وغير ذلك مِن الصفات الخطيرة التي تزداد مع اختلاط الإنسان بأهل الفساد, فكلما ابتعد الإنسان عن مصادر النور ظهرت فيه هذه الخصال.
 
وأما عن أنواع الأخلاق الأخرى التي تبدو في استجابة الإنسان للشهوات فحدِّث ولاحرج -إلا مَن رحم ربي-، وإن كثرة المشاكل التي نعيشها لَتُنَبِّئُنَا بخطر كبير؛ فوالله إنها لتمرص قلب مَن يستمع إليها، فكيف بالمشارك فيها؟! نسأل الله العافية.
 
فلابد مِن تكميل جوانب الشخصية المسلمة في العقيدة والعبادة والعمل والسلوك, في الإيمان والإسلام والإحسان، وأصل ذلك (حال القلب) بأن يكون الواحد منا منتبهًا لما يمكن أن يدخله مِن أمراض؛ كالرياء والعجب والكبر والحسد والحقد والضغينة, أو أن يكون في قلبه غش أو عدم نصيحة للمسلمين, أو أن يحرص على مصلحته الشخصية فقط وينسى حقوق إخوانه المسلمين, أو أن يتبع هواه ويشغل خواطره بالحرام, فيظل الشيطان يسقي بذرتها حنى تنمو شجرتها في القلب وتُثمر الثمار الخبيثة مِن الذنوب والمعاصي, وما ممارسة العادات السيئة, وأمراض العشق والشذوذ, وإدمان الخمر والمخدرات والسجائر؛ إلا بسبب الخواطر السيئة التي تدور في القلب والفكر.
 
وهكذا أمراض كثيرة في القلب تظهر آثارها على السلوك؛ فإن القلب هو ملك الجوارح, فإذا صلح صلح سائر الجسد، وإذا فسد فسدت الأعمال والأخلاق «أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ. أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِي الْقَلْبُ».
 
ولمواجهة هذه الفتنة لا بد مِن النظر في أسبابها:
فمن أسبابها (الجهل) بكثير مِن أحكام الشرع؛ فيكون الإنسان ظاهره أنه ملتزم، ولكنه لم يتعلم معاني الالتزام ولم يُجاهد نفسه لكي يُزاحم أهل العلم بالركب.
 
ولذلك لا بد أن نتعلم حتى يصير التزامنا كل يوم في ازدياد، وقد كانت وصية أحد العلماء الأفاضل لتلامذته أن المخرج مِن كل ما يتعرض له المسلمون، والحل لكل ما هم فيه مِن المشاكل: أن يكون في كل مسجد مِن مساجد المسلمين مَن يعلمهم الدين مسألة مسألة؛ في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والآداب، وهي وصية غالية لو طبقها المسلمون لزال عنهم مِن أسباب الفتن الشيء الكثير.
 
فما ظنك -أخي المسلم- بنفسك, لو كنت تتعلم منذ التزمت إلى اليوم -ولو مسالة واحدة في كل يوم-؟ لا شك أنك لو فعلت لكنت حصَّلت علمًا تنفع به نفسك وأهلك ومَن حولك, ولكن سل نفسك: كم من درس انصرفت عنه؟ وكم مِن حلقة للعلم تشاغلت عنها؟ فما المانع أن نبدأ -أخي المسلم- في التعلم؟ اجعل حديث جبريل المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان فهرسًا لحياتك.
 
فمسائل الإيمان:
مِن الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وألوهيته وربوبيته, والحب في الله والبغض في الله, والولاء والبراء, والحكم بشرعه سبحانه وتعالى، وسائر معاني الإيمان, مِن الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
 
ماذا تعرف عن هذه الأصول؟ ماذا أعددت للقاء الله عز وجل فيها؟  فوالله لو لم يكن عند الإنسان من الانحراف إلا فساد الاعتقاد لكان من أعظم النقص, بل ربما وصل به إلى الكفر.
 
فلو كان الإنسان حسن السلوك, صادق الحديث, زاهدًا متعبدًا! ولكنه فاسد الاعتقاد,كأن يكون ممن يعبد الأولياء ويتقرَّب إليهم, أترى الله عز وجل يقبل منه صرفًا أو عدلًا, وقد أشرك بالله؟ وهو عز وجل يقول:  ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ? (الزمر: 65)، وكذلك في مسائل القضاء والقدر كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: «والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحُدٍ ذهبًا فأنفقه ما قَبِلَ الله منه حتى يؤمن بالقدر». رواه مسلم.
 
وكذلك كل أصول الإيمان, لا بد أن تتعلم ما يلزمك اعتقاده فيها، خصوصًا وهي تتعرض إلى الزلزلة والاهتزاز عند كثير مِن الناس؛ كقضية الشفاعة والولاء والبراء والحكم بما أنزل الله وعذاب القبر, والاعتقاد في الصحابة وأهل البيت, وغيرها مِن المسائل, وخصوصًا أهل البدع الذين ينشرون بدعتهم؛ كالطرق الصوفية المنحرفة, والشيعة الروافض, فضلًا عن العلمانين الذين يتخذون الكافرين أولياء مِن دون المؤمنين.
 
ومسائل الإسلام:
كم مِن الإخوة تعلَّم فقه العبادات حتى يتعلم ما تصح به العبادة وما تبطل به؟ وكذلك  مسائل المعاملات؛ فإنها في الحقيقة جزء مِن الإسلام, فالإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان, والحج, وتتمته بقية الواجبات؛ فالبناء أوسع من المبني عليه، فلماذا نكتفي بأركان الإسلام ولا نكمل باقي واجباته؟ وهل نرضى بذلك في دنيانا؟ هل نرضى أن نسكن في بيت ليس فيه إلا الأعمدة؟ أم لا بد مِن الجدران، بل والأثاث والمتاع؟
 
والتربية في الحقيقة مسئولية مزدوجة على الفرد وعلى الجماعة؛ فالفرد في نفسه لا بد أن يتعاهد نفسه بالمحاسبة والمراقبة والمجاهدة, فلا بد أن نُتْبِع العلم بالعمل والأدب والخلق وصفاء القلب.
 
أمَّا الجماعة فلا بد لكل واحد منا أن يتعاهد إخوانه بالتربية كما يتعاهد نفسه, فلا يكتفي بمجرد انتماء الفرد إلى اتجاه معين, أو بمجرد التغيير المظهري فيه, بل لا بد أن يتعاهد باقي جوانب الالتزام فيه, بأن يُذَكِّره بها ويحضَّه عليها، ويتعاون معه في تحصيلها.