يا مَن زرعتم «نداء الكنانة» .. لماذا تبكون ثماره المُرَّة؟

  • 150

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
كان هناك ارتباط وثيق بين العنف والتكفير عبر التاريخ؛ فتارة يبدأ الانحراف بقضية التكفير ثم يتبعه القتل، وتارة العكس، بحيث تغلي الدماء في عروق البعض ويقرر القتل، ولكنه يصطدم بحرمة الدماء، فيبحث عن حل لهذه العقبة التي تقف أمام دافع الانتقام لديه، فيبحث عن حلول لدى أي منهج تكفيري يعطيه فتاوى للتكفير العام أو الخاص، ومِن ثَمَّ كان الإرهابيون يتجهون كثيرًا بأعمالهم إلى السياح لعدة اعتبارات وهي:
 
أولًا: الهروب مِن تأنيب الضمير إذا قتلوا مَن يرونه مسلمًا أو يرونه على الأقل أنه في منزلة بين المنزلتين ليس بمسلم ولا بكافر.
 
ثانيًا: ضرب الاقتصاد المصري.
 
ثالثًا: إعطاء رسالة عالمية بعدم استقرار البلاد.

 
وقد قامت الدعوة السلفية -بحمد الله- بالتصدي لكل هذه الأفكار؛ فبيَّنت:
 
1- مسائل الإيمان والكفر، وردَّت على بدعة التكفير المختلفة، سواء التكفير بالكبيرة أو التكفير بدعوى جهل معنى الشهاديتن، وهي الفكرة التي روَّجت لها كتابات المودودي وسيد قطب ومحمد قطب (على تفاوت بينهم، ومع وجود خلاف في مقصود كل منهم مِن هذا الكلام).
 
2- كما أصَّلت الدعوة السفية لقضية العُذر بالجهل؛ لمنع التسرُّع في تكفير مَن يقع في أمور مِن الشرك بجهل أو تأويل أو شُبهة.
 
3- وعلى صعيد قتل السياح؛ بيَّنت الدعوة السلفية حكم المستأمن، وأنه يجب تأمينه على نفسه وعرضه وماله.
 
4- كما تناولت الدعوة السلفية أنه حتى في أسوأ الظروف بالنسبة للأهداف التي كان الإرهاب يستهدفها، فسوف ينطبق عليهم ذلك المانع الذي منع النبي صلى الله عليه وسلم مِن قتل المنافقين قائلًا: «حتى لا يتحدَّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».
 
وكانت جماعة الإخوان قد تناولت تفنيد كثير مِن هذه الشُّبُهات بصورة رسمية في كتاب «دعاة لا قضاة» والذي ردت فيه على الفصيل الذي انشق عنها ودعا إلى التكفير أو التوقف، كما ردَّ بعض رموز الجماعة على هذه الأفكار؛ مثل: كتابات سالم البهنساوي والقرضاوي.
 
وقد ذكرت في مناسبة سابقة أن جماعة الإخوان أصدرت مراجعات في قضية التكفير، ولكنها أبدت ندمًا باهتًا على قضايا الإرهاب؛ مثل: اغتيال القاضي الخازندار، والنقراشي باشا، وهو أشبه بالتراجع السياسي منه بالتراجع الفقهي.
 
حتى أثناء موجات الإرهاب في التسعينات والتي كان الإخوان أثناءها في قمة سلميتهم وانخراطهم في العمل الاجتماعي والسياسي، بل والقرب أحيانًا مِن السلطة إلى حد وصفهم لمبارك بأنه أبٌ لكل المصريين.
 
ومع هذا كله كانت ردود الإخوان على العنف كلها بيانات صحفية، صحيح أنها كانت شديدة اللهجة وقوية الاستنكار، إلا أنها لم تكن تحمل أي تأصيل فقهي، فإذا أضفت إلى ذلك تلك العبارة الغامضة التي وردت عن الأستاذ حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس مِن اللجوء للقوة حال فشل النضال الدستوري؛ أدركت أن قضية الموقف مِن العنف هو موقف في غاية الغموض لدى جماعة الإخوان، ولكن الذي كان يعوض ذلك الغموض هو الواقع العملي الذي كان بعيدًا كل البعد عن العنف، والموقف الإعلامي الذي كان متبرئًا غاية التبرؤ مِن العنف.
 
وبعد 3/ 7 مالت الجماعة إلى الحل الثوري، وهو الحل الذي كان مرفوضًا تمامًا عند الأستاذ البنا، وكانت الحلول عنده عبارة عن نضال دستوري فإن فشل فالقوة، وبدأت تلك الحلول الثورية تحت شعار: «سلميتنا أقوى مِن الرصاص»، ثم تطور الأمر إلى: «أنَّ كل ما دون الرصاص فهو سلمية»، لتصبح سلمية بطعم المولوتوف اليدوي وعبر القاذفات، ثم جاءت المرحلة الأخيرة، مرحلة «موت خالتي سلمية والبحث عن خالتي بندقية»، كما جاء على لسان عصام تليمة متسائلًا ومقررًا أن الجمع متاح فقهيًّا، ولكن يبقى السؤال: أيها الأنسب واقعيًّا؟ فقال: «وفتوى السلمية مِن غيرها، يقررها أهل الاختصاص مِن الساسة والثوريين، ومراكز بحوث علمية مختصة، تبين ما يفيد وما لا يفيد، في ضوء أدلة مِن الشرع بجواز الوسيلة التي ستستخدمها. والآن عزيزي بعد هذه الضوابط والأدوات تستطيع أن تقرر بهدوء وتعلم: هل خالتك (سلمية) ماتت، أم لا تزال حية، وهل تحتاج إلى عملية جراحية لتقوم بعافية وصحة جيدة؟ أم أنها ماتت فعلًا وجار البحث عن الخالة (بندقية) في ضوء هذه الشروط والمعايير التي وضعها الشرع وبينتها لك؟!». اهـ.
 
ثم تفجر خلاف داخل الجماعة حول مشروعية تطوير الحالة الثورية التي تبنتها الجماعة إلى حالة العنف، مع الاتفاق بين الجميع على أن أدنى أحوالهم هي السلمية الثورية، وليست السلمية الإصلاحية التي عُرفت بها الجماعة منذ عودتها في منتصف السبعينات إلى ما قبل الأحداث الأخيرة، ويبدو أن الفريق الأكثر ميلًا إلى العنف قد أقنع عددًا مِن طلبة العالم ليوقعوا ما أسموه «نداء الكنانة»، وعقب إصداره أصدر المتحدث الرسمي باسم الإخوان المسلمين ترحيبًا بهذا البيان مُعَلِّقًا: «هذا ديننا وهؤلاء علماؤنا».
 

حادث الأقصر والحصاد المر
 
إن أخطر ما في «نداء الكنانة» أنه يُعطي أوامر على الهواء لأفراد غير منضمين تنظيميًّا , يشرع لهم العنف ويطلب منهم الثأر مِن الجيش والشرطة والقضاء، وهذا يشمل قطاعًا كبيرًا جدًّا مِن الناس، بل ويضيف إليهم المتعاونين معهم والذي شمل في حس كثير مِن المتلقين لهذا الخطاب التحريضي، كل الناس تقريبًا عدا المؤيدين لهذا الاتجاه، وبالطبع احتاج الأمر الى تبرير قتل ضابط أو جندي مجند لا يملك مِن أمر نفسه شيئًا، وكانت التبريرات التي قيلت في وسائل إعلامية كثيرة وأومأ إليها البيان مِن طرف خفي أنه لا يجوز له أن يدخل في طاعة قادة الجيش مع وصفهم بالكفر أو الظلم، وأن ذنبه أنه دخل في طاعة سلطة غير شرعية وما شابه ذلك. «مع أنهم لم يطبقوا هذا على مَن دخل في طاعة الأمريكان مختارًا مبديًا اعتناقه لمبادئ مؤسسي أمريكا ...إلخ».
 
المهم أن هذا ينسحب بدوره على السائح الذي أخذ عهد أمان مِن ذات السلطة، فإذا لم ينفع هذا الجندي فلن ينفع السائح، والصحيح طبعًا أن اعتبار السلطة القائمة هو مبدأ شرعي وقانوني، وبدونه تضطرب أحوال البلاد والعباد، وقد امتنع من قدم منهم للمحاكمة في بداية الأمر مِن الترافع أمام المحاكم بدعوى عدم شرعية المحاكمات، ثم رأوا أن يترافعوا حتى عن د. مرسي شخصيًّا، وكان الواجب عليهم إذ وجدوا لأنفسهم مساغًا أن يعترفوا بالسلطة القائمة أن يعطوا لغيرهم مِن باب أولى حق الاعتراف بها، لا سيما ومعظم الناس يعترف بها أصلًا وليس لجرد أنها سلطة واقع.
 
المحصلة أن هذا البيان وبهذه الطريقة في التنظير فضلًا عن كلام الفضائيات والذي تضمَّن تكفيرًا صريحًا؛ ككلام وجدي غنيم في حق السيسي مثلًا، كان يجب أن يكون متوقعًا نتائجه، وأن مَن سيتلقى هذا البيان ربما يذهب إلى الهدف الأسهل والأنكى وهم السياح ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
 
الباحثون عن «البندقية» ما زالوا يرون حرمة دماء المستأمنين
 
اطَّلِع على هذه العبارت وحاول أن تتوقع قائلها:-
 
«نُدِين العمل الإرهابي البشع الذي شهدته منطقة الأقصر».
 
«استهداف السياح أمر محرم شرعًا، ولا يجوز فعله أيًّا كانت الدوافع، وهؤلاء حكمهم في الإسلام أنهم (مستأمنون) أي: لهم حق الأمان في بلادنا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّما رجل أَمَّن رجلًا على دمه ثم قتله، فأنا مِن القاتل بريء، وإن كان المقتول كافرًا»، وفي رواية: «فإنه يحمل لواء غَدْر يوم القيامة»، وفي رواية: «إذا اطمأن الرجل إلى الرجل، ثم قتله: رُفع له لواء غدر يوم القيامة».
 
لا تذهب بظنونك كل مذهب؛ فالعبارة الأولى: هي ترجمة لتعليق موقع حزب الحرية والعدالة (الإنجليزي)، والثاني: هو تصريح لعصام تليمة الذي نقلت عنه آنفًا التردد بين «خالتي سلمية»، و«خالتي بندقية» على حد تعبيره.
 
لن أحاول أن أجهد نفسي بتفسير: لماذا رفضوا السلمية إلا في حق السياح؟ ولماذا لم يعتبروا السلطة القائمة سلطة واقع على الأقل إلا في قضاياهم وفي حق السياح، بينما لم يعتبروه هكذا في حق الجندي المسكين؟ ولماذا خرجت دعوات تشكك في أن يكون «الثوار» -على حد وصفهم- هم مَن قام بهذا؟
 
وبغض النظر عن شخصية الفاعل أو الجهة التي تقف وراءه، (لم تعلن أية جهة مسئوليتها عن هذا الحادث وقت كتابة هذه السطور) فإن بيان «نداء الكنانة»، وأسوأ منه خطاب بعض الأفراد؛ كوجدي غنيم وغيره، يشرع لهذه الأعمال، فإذا كانت هذه أولى الثمار الـمُرَّة لهذا البيان؛ فرجاءً أصدروا بيانًا يتبرأ مِن التكفير، ويزجر مَن تجرءوا عليه، ويقرر عصمة جميع الدماء في بلادنا , المسلم بإسلامه والمعاهد بعهده والمستأمن بأمانه، وإلا فلْيُعِدّ كل واحد استنكر ذلك الحادث وفرح لغيره جوابًا أمام الناس، والأهم فلْيُعِدّ جوابًا أمام الله تعالى.
نسأل الله أن نلقاه ولم تتلوث أيدينا بدم حرام أيًّا ما كان.