وقفات مع حديث التجديد

  • 491

لا شك أن التجديد صفة أساسية من صفات دين الإسلام، وقد نصَّ الشرع على التجديد؛ ففي الحديث ‏الذي يرويه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا». رواه أبو داود، وصححه الألباني.
 
ثم إن النصوص الأخرى التي دلَّت ضمنيًّا على التجديد ولم ‏تصرح به, تعطينا الأمل في أن الغلبة لهذا الدين؛ فهو يريد أن يُرسِل رسالة إلى أتباع هذا الدين ‏مفادها أن هذا الدين لن يموت، وأن الله يقيض لهذه الأمة كل فترة زمنية مَن يجدد فهمها وأفكارها ‏نحو هذا الدين، وأن الله عز وجل لن يدع هذه الأمة تتوه بعد وفاة رسولها صلى الله عليه وسلم‏، فقد قرر عز وجل أن يُرسِل لهذه الأمة مَن يوقظها مِن سُبَات، ويجمعها مِن شتات، وينصرها ‏من هزيمة، ويحررها من طغيان.

وبالتالي فإن هذا الحديث الجليل يقف ضد موجة اليأس والانهزام والقنوط؛ التي يبثها المثبطون ‏والمعوقون؛ الذين يوحون إلى الناس بأن الإسلام في إدبار والكفر في إقبال، وأنه لا فائدة ولا أمل ‏في التمكين للمسلمين في الأرض، كما مكن الله الرعيل الأول من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ‏ومِن ثَمَّ تأتي وظيفة هذا الحديث وأمثاله -من المبشرات- بقذف قمم اليأس التي خيَّمت على النفوس، ‏وحرق أشجار القنوط الخبيثة ?يَابَنِيّ اذْهَبُواْ فَتَحَسّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَوْحِ اللهِ إِنّهُ ‏لاَ يَيْأَسُ مِن روْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ? (يوسف: 87). والحق أن في السنة النبوية الكثير والكثير ‏مِن الأحاديث المبشرة بنصر الإسلام والتمكين له، وكلها أحاديث تتكاتف مع حديث المجدد من ‏حيث وحدة الهدف، في كون هذه الأمة منصورة، ممكن لها .. ومن أمثلة تلك الأحاديث الكريمة: ‏قول الرسول صلى الله عليه وسلم: - «بَشِّرْ هذه الأمة: بالتيسير، والسناء، والرفعة بالدين، والتمكين في البلاد، ‏والنصر؛ فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب».
 
- «مثل أمتي، مثل المطر؛ لا يدري أوله أخير أم آخره».
 
- «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز ‏عزيز أو ذل ذليل عزًّا يعز الله به الإسلام وذلًّا يذل الله به الكفر».
 
- «‎تسمعون ويُسمع منكم».
 
- «‎تكون النبوة فيكم -ما شاء الله أن تكون-، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة -ما شاء الله أن تكون-، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكًا عاضًّا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم ‏يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكًا جبريًّا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ‏خلافة على منهاج نبوة، ثم سكت‎».


«‎إن الله زوى لي الأرض! فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها».
وبالجملة فإن هذه الأحاديث لا سيما هذا الحديث العظيم (أي: حديث المجدد) من البشائر التي وعد ‏بها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن هذا الحديث العظيم ليمنح المسلم طاقة من الأمل الأكيد بنصر ‏الله لعباده المؤمنين، ويمنحه -فوق هذا- دفعة قوية محركة للعمل والبذل والجهاد والتضحية، رجاء ‏أن يكتب له المولى تبارك وتعالى ثواب المجددين.
 
لقد فسر أهل العلم هذا الحديث التفسير الصحيح، فقالوا: إن كلمة (مَن) هنا اسم موصول تفيد ‏الإطلاق، فيحتمل أن يكون المجدد فردًا، ويحتمل أن يكون طائفة مِن الناس، وبناءً عليه فلا يلزم ‏تتبع أسماء أفراد من العلماء في كل قرن والمفاضلة بينهم لتمييز المجدِّد فيهم، فقد يكون كلهم ساهم ‏في تجديد هذا الدين وبعثه في الأمة.‎
يقول الحافظ الذهبي رحمه الله:‏‎ ‎
«الذي أعتقده مِن الحديث أن لفظ (مَن يُجَدِّدُ) للجمع لا للمفرد».
 
ويقول ابن كثير رحمه الله: «‎قال طائفة من العلماء: الصحيح أن الحديث يشمل كل فرد مِن آحاد العلماء مِن هذه الأعصار ‏ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمن أدرك مِن السلف إلى مَن يدركه مِن الخلف، كما جاء ‏في الحديث مِن طُرُق مرسلةٍ وغير مرسلة: «يحمل هذا العلم من كل خلف عُدو له، ينفون عنه ‏تحريف الغالين وانتحال المبطلين»، وهذا موجود ولله الحمد والمنة إلى زماننا هذا ونحن في القرن ‏الثامن». اهـ.
 
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة (يعني: ‏قد تكون جماعة) وهو متجه، فإنَّ اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من ‏أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر ‏بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير ‏وتقدمه فيها، ومِن ثَمَّ أَطْلَقَ أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما مَن جاء بعده فالشافعي -‏وإن كان متصفًا بالصفات الجميلة- إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل ‏من كان متصفًا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدد أم لا». اهـ.
 
وكذلك لا يلزم لانطباق وصف التجديد على شخص معين أن ينتصر الإسلام في زمانه، وأن تكون ‏الدائرة للدولة الإسلامية، فقد يكون المجدد في مجال العلم وليس في مجال القيادة والسياسة، بل قد ‏يكون التجديد في جوانب دعوية أو تربوية ونحو ذلك، فهذا هو مفهوم إطلاق قوله صلى الله عليه ‏وسلم: «يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا».


قالت اللجنة الدائمة: «معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «يجدد لها دينها» أنه كلما انحرف الكثير مِن الناس عن جادة ‏الدين الذي أكمله الله لعباده وأتم عليهم نعمته ورضيه لهم دينًا؛ بعث إليهم علماء أو عالـمًا بصيرًا ‏بالإسلام، وداعيةً رشيدًا، يبصر الناس بكتاب الله وسنة رسوله الثابتة، ويجنبهم البدع، ويحذرهم ‏محدثات الأمور، ويردهم عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله ‏عليه وسلم، فسمى ذلك: تجديدًا بالنسبة للأمة، لا بالنسبة للدين الذي شرعه الله وأكمله، فإن ‏التغير والضعف والانحراف إنما يطرأ مرة بعد مرة على الأمة، أما الإسلام نفسه فمحفوظ بحفظ ‏كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبينة له، قال تعالى: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا ‏لَهُ لَحَافِظُونَ?». اهـ‎ .‎
(عبد العزيز بن باز، عبد الرزاق عفيفي، عبد الله بن غديان، عبد الله بن قعود مِن فتاوى اللجنة الدائمة 2/ 247-248‏).


قال صاحب عون المعبود: «اعلم أن المراد مِن رأس المائة في هذا الحديث آخرها‎، والدليل الواضح على أن المراد برأس المائة هو آخرها لا أولها أن أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة ‏المتقدمين والمتأخرين اتفقوا على أن مِن المجددين على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز ‏رحمه الله، وعلى رأس المائة الثانية الإمام الشافعي رحمه الله، وقد توفي عمر بن عبد العزيز سنة ‏إحدى ومائة وله أربعون سنة ومدة خلافته سنتان ونصف، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين وله ‏أربع وخمسون سنة، فلو لم يكن المراد مِن رأس المائة آخرها بل كان المراد أولها لما عدوا عمر ‏بن عبد العزيز مِن المجددين على رأس المائة الأولى ولا الإمام الشافعي على رأس المائة الثانية؛ ‏لأنه لم يكن ولادة عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، فضلًا عن أن يكون مجددًا عليه، ‏وكذلك لم يكن ولادة الشافعي على رأس المائة الثانية فكيف يصح كونه مجددًا عليه، فإن قلت ‏الظاهر مِن رأس المائة مِن حيث اللغة هو أولها لا آخرها فكيف يراد آخرها؟ قلت: كلا بل جاء في ‏اللغة رأس الشيء بمعنى آخره أيضًا، قال في تاج العروس رأس الشيء طرفه وقيل آخره». اهـ.
وهناك اتفاق بين العلماء على اعتبار عمر بن عبد العزيز أول مجدد في الإسلام، وكان أول مَن ‏أطلق عليه ذلك الإمام محمد بن شهاب الزهري، ثم تبعه على ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: يروى ‏في الحديث: إن الله يبعث على رأس كل مائة عام مَن يصحح لهذه الأمة أمر دينها، فنظرنا في المائة ‏الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز، وتتابع العلماء على عَدِّه أول المجددين، وذكر بعض أهل العلم أنه مِن المقصودين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل ‏مائة سنة مَن يُجدِّد لها أمر دينها. ولا شك أن عمر بن عبد العزيز حري بأن يكون ممن يحمل عليه ‏هذا الحديث، فقد كان عالمًا عاملًا، همه كله، وعزمه، وهمته، آناء الليل والنهار إحياء السنن وإماتة ‏البدع ومحدثات الأمور محوها، وكسر أهلها باللسان، والسنن.‏