إن الله تعالى لم يخلق الناس عبثًا ولم يتركهم هملًا؛ إنما خلقهم بقدر، وأنزل لهم منهجًا، وقيَّض له رسلًا يعملون به ويدعون إليه، ولم يدع سبحانه وتعالى لأحد مِن الخلق فرصة لابتداع منهجًا خاصًا به، بل شدد في ذلك وتوعد مَن يتعدى حدوده بأليم العقاب, ومع ذلك تجاوز الكثير مِن الناس تلك الحدود وابتدعوا مناهج منحرفة وطرقات معوجة بحثًا عن مناصب أو مال أو شهرة أو سطوة، دون النظر إلى تبعات هذه الأمور؛ فكان السقوط المدوي والحسرة والألم على فوات الدنيا؛ لأنهم لم يرتبطوا بمنهج رباني له قواعد وأصول، وإنما اعتمدوا على مناهج بشرية إنسانية قاصرة تضر أكثر مِن أن تُفيد, ولذلك لـمَّا أراد الله تعالى أن يُرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم -في وقت كان قد غضب على كل مَن في الأرض إلا بقايا مِن أهل الكتاب- وضع له منهجًا عظيمًا، عندما طبقه تطبيقًا عمليًّا في أرض الواقع ظهرت ثمرته؛ ففي غضون سنوات معدودة أقيمت دولة الإسلام، وهذا هو الفارق بين مَن ينتهج المنهج الرباني الواضح والذي تكون مِن ثمراته دولة الإسلام الحقيقية، وبين مَن ينتهج المنهج الإنساني القاصر الذي يتخذ كل الوسائل دون النظر إلى مشروعيتها مِن عدمها والنتيجة تخبط في دياجير الظلام، فلا شريعة نصر ولا دولة أقام, وهذا المنهج الربانى بيَّنه تعالى في ثلاثة مواطن متفرقة في كتابه الكريم -أسميتها الأصول الثلاثة- فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلو بغار حراء فيمكث فيه ليالي متواليات يتعبد على الفطرة السليمة وفي أحدى المرات جاءه جبريل عليه السلام فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ...". الآيات.
وهذا هو الأصل الأول: العلم، ويعد
هذا أعظم دليل على أهمية العلم في حياة الإنسان عمومًا فضلًا عن المسلم، ولذلك بدأ
تعالى الوحي بالتنبيه عليه، وقد ذُكرت لفظة العلم في القرآن الكريم بمشتقاتها
أكثر من ستمائة مرة، وقال صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي: «ألا إن الدنيا
ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم».
وبعد نزول هذه الآيات ذهب صلى
الله عليه وسلم فزعًا خائفًا إلى خديجة وهو يقول: زَمِّلُوني زَمِّلُوني.
(والـمُتَزَمِّل كما يقول البقاعي
في نظم الدرر: هو التلفف بالثوب على جميع البدن، والاختفاء ولزوم مكان واحد) فأنزل
الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا".
وهذا الأصل الثاني: والمتأمل فيه
يجد أن الله تعالى يقول لنبيه أنك بعد أن تتعلم قم، فلا وقت للتزمُّل والمكوث وهي
رسالة كذلك للجميع، وأخبره لاحقًا بعلة هذا وبطبيعة الطريق فقال تعالى: ?إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا?.
فقال: «عَلَيْكَ»، ولم يقل: «إليك»؛
قال البقاعي: ولـمَّا كان المقام لبيان الصعوبة، عبَّر بأداة الاستعلاء فقال: «عَلَيْكَ».
والقول الثقيل لما فيه مِن
التكاليف الشاقة مِن جهة حملها وتحميلها للمدعوين؛ لأنها تضاد الطبع وتخالف النفس،
ثم أخبرهبتعبات حمل هذه الأمانة الثقيلة فقال: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا".
ثم بعد فترة ظَهَر جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته، ففزع منه وذهب إلى بيته خائفًا وهو يقول: دثروني، فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ"؛ فكان الله تعالى يقول له: يا محمد بعد أن تعلمت وأقمت ذلك في واقعك فلتخرج الآن إلى الناس وتدعوهم إلى هذا المنهج المبارك، وكذلك أخبره بطبيعة الطريق وذكَّره بالصبر قائلًا: "وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ".
قال في نظم الدرر: ولما كان
الإنذار يتضمَّن مواجهة الناس بما يكرهون، وذلك عظيم على الإنسان، وكان المفتر عن
الداعي أحد أمرين: تركه ما يؤمر به، وطلبه عليه الأجر، كما أن الموجب لاتباعه عمله
بما دعا إليه وبعده عن أخذ الأجر عليه.
والمتأمل في هذه الآيات يجد منهجًا
ربانيًا عظيمًا أُسِّس على ثلاثة أصول: العلم والعبادة والدعوة، والواقع المصري
خير دليل على ذلك؛ فعندما تتابعت الفتن وتساقطت مثل القطر مِن السماء؛ ظهر معدن
كل دعوة ومنهج، وتبيّن مَن بكى ممن تباكى، وسقطت كل المناهج التي تتبع أراء الرجل،
وصمد أصحاب المنهج الرباني المنبثق مِن الكتاب والسُّنَّة؛ لمعرفتهم طبيعة الطريق
ومتطلبات المرحلة؛ كما أُخبر بذلك صلى الله عليه وسلم بأن السبيل هو العلم
والعبادة والدعوة وحمل هذه الأمانة الثقيلة والصبر عليها؛ لأن المعركة مع الشهوات
والشبهات طويلة، فنجد التذكير مِن الله تعالى لنبيه بالصبر على العبادة والصبر على
الدعوة وحمل الأمانة.
جعلنا الله تعالى ممن ينصرون دينه
وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.