لا تثريب عليكم اليوم

  • 187

الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد،
 
فبعد كل ما جرى ليوسف صلى الله عليه وسلم بسبب إخوته، لكنه لما سمع منهم اعترافا حقيقيا بالخطيئة، (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَك اللَّه عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ)؛ وجدوا منه القلب الرحيم الكريم مفتوحا للعفو والصفح، بلا تكرار اعتذار ولا محاولة إذلال ولا توبيخ ولا تأنيب، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
 
أخذوا الدواء فانحلَّ الداء وزال المرض، ، وقال صلى الله عليه وسلم مؤنسا وحشة انكسارهم وخزي انكشافهم: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي: لا تأنيب ولا عتب، ولا أعيِّركم بذنبكم في حقي بعد اليوم.
 
لم يعاقب، بل لم يعاتب بعد ذلك، بل وزادهم الدعاء بالمغفرة: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ)، وتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته ليستجيب هذا الدعاء وفتح لهم باب الرجاء فقال: (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فكما كان هو سبحانه في حفظه ليوسف عليه السلام ورحمته به خيرا حافظا وهو أرحم الراحمين، فكذلك في قبول توبة المسيء النادم ومغفرة ذنب المعترف المنيب الراجع إلى ربه، هو عز وجل أرحم الراحمين.
 
ولما كان هذا الرد هو أحسن رد وأكرمه في مثل هذا المقام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – خصوصا المقربين منهم الخبيرين بخلقه صلى الله عليه وسلم كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه – قد عاشوا قصص القرآن، وأدركوا أثره في النفس والارتفاع بها، كانت هذه النصيحة الغالية من علي رضي الله عنه لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه حين أسلم قبل الفتح، وكان قبل ذلك من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم رغم أنه عمه، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، وتأخر إسلامه إلى سنة ثمان من الهجرة، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه لفتح مكة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه لما كان يلقى من أذاه، فشكى أبو سفيان ذلك لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ائته من قِبل وجهه وقل له: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَك اللَّه عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ)، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن مردودا منه، ففعل فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، وكان بعد ذلك يدنيه ولا يحجبه ويقول: " عسى الله أن يجعل منه خلفا لحمزة".
 
ما أفقه عليا وأعلمه برسول الله صلى الله عليه وسلم وسجاياه في الكرم والعفو، وحسن الاقتداء بالأنبياء قبله وطلبه محاسن الأخلاق ومعاليها!، فكانت نصيحة أثمرت أحسن الثمار وأزالت آثار وحشة العداوة والتأخُّر والهجاء.
 
وينبغي لمن سامح أخا من إخوانه أن لا يعتب عليه بعد مسامحته، ولا يذكر له التثريب بعد ذلك، وإلا كان عائدا في هبته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه"، وإن كان الاستدلال به مشهورا في هبة الأموال فهو في هبة الحقوق والأعراض والمظالم أولى وأحرى.
 
وتأمل كيف أن يوسف عليه السلام وفَّى لأخوته بما وعد من عدم التثريب، فإنه لما سجدوا له وذكَّر أباه برؤياه: (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فلم يقل: من بعد أن فعل إخوتي ما فعلوا، ولا حتى من بعد أن نزغ الشيطان في قلوبهم ما نزغ، ولا حتى من بعد ما نزغ الشيطان بينهم وبيني، بل بدأ بنفسه فقال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) صونا لهم من مجرد الحرج والحياء من فعلهم، فنسب الفعل إلى الشيطان وجعله نزغا منه بينه وبينهم صلى الله عليه وسلم.