لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا

  • 169

وإذا تأملنا أن الله عز وجل جعل للإنسان في الأمور التي يحتاج إليها لبقائه واستمرار حياته رغبة ولذة فيها؛ لأنه لا قوام لحياته إلا بها؛ فإنه عز وجل جعل للإنسان رغبة في الطعام والشراب، فيجوع إن لم يأكل، ويعطش إن لم يشرب.
 
فجعل في جسمه هذه الحاجة، وذلك لأنه بدون الطعام والشراب لا يعيش، ولا يمكن أن يقوم له كيان، بل يهلك إذا ترك الأمر إلى رغبته، فإذالم يرغب في الأكل لم يأكل، فجعل الله في فطرة الإنسان حاجة أساسية إلى الأكل، كما أنه لو ترك أمر حفظ النسل إلى رغبات الناس لم يكن ذلك دافعًا لهم ولهلك النوع البشري، فقدر الله عز وجل وجعل في الإنسان الرغبة في الجنس الآخر، ليكون ذلك دافعًا إلى الزواج والتناسل الذي يجد الإنسان فيه لذته، وإن لم يفكر لماذا يريد هذا الشيء لكنه يفعله من أجل اللذة، فهو لم يفكر في المصلحة، لكنه بعد ذلك يظهر له أن مصلحة حفظ النوع الإنساني حاصلة بوجود التناسل وبوجود الرغبة التي جعلت فيه.
 
وكذلك فلأن الإنسان حياته ناقصة، يجد رغبة في النوم والراحة كلما تعب، وهكذا نجد كل ما بالإنسان إليه حاجة جعل الله فيه رغبة إليه، وجعل له إذا فعله لذة.
 
وهكذا الأمر الذي تقول إنه وظيفة العمر، فهو الهدف مِن وجودنا في الحياة، إنه الإجابة عن ذلك السؤال: لماذا خلقنا؟
 
لا نقول: من غير لماذا؟ أو لا ندري لماذا، كما يقول الزنادقة، وإنما نعلم أننا خلقنا لنعبد الله، فهذا الأمر أيضًا له لذة هي أعظم لذة على الإطلاق؛ إذ الحاجة إلى هذه الوظيفة هي أعظم الوظائف على الإطلاق، فهل وجدت بالفعل هذه اللذة؟! بل هل وجدت هذه الرغبة؟!
 
إن الإنسان به حاجة فطرية تدفعه دفعًا إلى أن يتعبد، وإلى أن يكون عبدًا، وإلى أن يخضع ويذل ويستكين ويطمئن إلى إلهه ومعبوده.
 
لذا فإن الإنسان لتحقيق هذه الرغبة الموجودة فيه يبحث عن إلهٍ يعبده، فإن وفق وهدي وقبل دعوة الرسل الذين جاءوا لتحقيق العبودية لله وحده لا شريك له، وجد السعادة واللذة في تحقيقه لهذه العبودية، وهذه اللذة قد يفعلها أولًا، ولا يجد ذلك الطعم اللذيذ الذي يجده الإنسان، لذة لا تضاهيها لذة في هذا الوجود كله.
 
إنها لذة ربما تأتي للإنسان في العمر لحظة، وربما دقيقة أو دقائق، وربما عاش كل ساعاته وأيامه ولياليه في هذه اللذة التي هي أعظم من كل لذة بلا شك.
 
وقد لا يجد الإنسان هذه اللذة بهذه الدرجة في أول الأمر، وإنما نصيب الإنسان منها على قدر تحقيق العبودية في قلبه، فلماذا لانجدها ونحن نصلي أو نصوم، وإنما نجد التعب فقط، نجد مشقة القيام، ومشقة الجوع والعطش؟
 
ذلك لأن العبادة لم تتم كما ينبغي، ولم تتم على الوجه الذي أمر الله عز وجل به، فوجد الإنسان النصب كما قصر، إما في الخشوع، وإما في استحضار معاني العبادة في القلب وهو يؤديها، وإما في الإخلاص، وإما في الصدق، وإما في المتابعة، فإذا وقعت المخالفة -ولو بدون قصد- فسوف يجد التعب.
 
ألم تقرأ قول الله عز وجل عن موسى عليه السلام:"فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَ?ذَا نَصَبًا" (الكهف: ??)؟.
 
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ».
 
فموسى عليه السلام أمره الله أن يصل إلى عبدٍ صالحٍ بمجمع البحرين، سافر موسى طويلًا، ولم يجد تعبًا؛ لأنه لم يتجاوز المكان الذي أمر به، فلما تجاوزه -عندما نسي الفتى أن يخبره بأمر الحوت- كان التجاوز بغير قصد من موسى، وكان نسيانًا من الفتى، فمع أنه لم يكن عن قصد المخالفة وجد التعب، فعندما يؤدي الإنسان الوظيفة وفق ما أمر به تمامًا ظاهرًا وباطنًا فإنه لايتعب، بل لا يجد إلا السعادة والسكون والطمأنينة، فإذا جاوز فإنه يجد التعب، وكذلك إذا قصر فيها، فمثلًا: إذا أدى الصلاة بلا روح، فأداها وهو مشغول بدنياه التي بها أودية متشعبة لا يحصيها الواحد منا كثرة، ومشاغل لا تنتهي، فعند ذلك لا يجد لذة هذه العبادة، وكذلك الصيام وكذلك الجهاد.
 
فالعبادة فطرة إنسانية، فهناك شوق دفين بالإنسان إلى أن يتعبد، وأن يتوجه إلى الله، ألم تعلم قول الله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم: ).
 
والحنيف: هو المائل إلى الله، المعرض عن غيره، فقد خلق الله الخلق يميلون بفطرتهم إلى الله وإلى عبوديته، فهناك فقر ذاتي بالإنسان، جوع شديد، وعطش شديد، وأرض قلبه تكاد تتشقق، بل قد تتشقق إن لم يعطِها سقياها مِن التوجه إلى الله عز وجل، وإذا فعل ما أمر به وجد تلك اللذة وتلك الحلاوة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»، وقال عنها صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الإيمانِ: مَنْ رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَمَ رَسُولًا».
 
فهلَّا سأل كل واحدٍ منا نفسه: هل وجدت طعم الإيمان؟ هل وجدت حلاوته؟ هل وجدت هذه اللذة التي نقول عنها: إنها أعظم من كل اللذات؟ أم أنك ما زلت تبحث عنها؟