صبرًا وحلمًا في مواجهة الحملة الجائرة

  • 203

في ظل التشويه الهائل والهجوم الباطل الذي يُوجِّه سهام الكذب والزور نحو الدعوة إلى الله وأهلها، ومحاولات الإقصاء مِن الحياة كلها لو أمكنهم، وليس فقط الوجود الدعوي أو السياسي الذي لا يشك منصف أنه مِن أعظم أسباب استقرار البلاد، أحببت أن أُذَكِّر نفسي وإخواني بالأسوة الحسنة في مثل هذه الأحوال: الأنبياء الكرام عليهم السلام، ومِن أعظمهم صبرًا وألما على ما سمعه مِن البهتان: يوسف عليه السلام، ومع وقفات إيمانية في قوله تعالى: (قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ  فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) (يوسف:77).
 
عجيب شأن إخوة يوسف عليه السلام، على الرغم مِن مر السنين وغيابه عنهم؛ فلا يزال الحقد والحسد يملأ قلوبهم عليه، فهم يحاولون تنقيصه وأخيه طالما سنحت لهم فرصة في ذلك، يدل هذا الأمر على طبيعة مرض الحسد والغل، وأنه لا يزول بمجرد مرور الزمن أو بُعد المحسود عن الحاسد، وإنما يزول باستعمال دوائه مِن شهود قسم الله وعطائه لعباده، وأنه يؤثر مَن يشاء بما يشاء، وهم إلى تلك اللحظة لم يستعملوا هذا الدواء، ولذا لما وجدوا فرصة للطعن في يوسف عليه السلام وأخيه؛ انتهزوها وسارعوا إلى النَّيْل منهما فقالوا: (قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ).
 
قال ابن كثير رضي الله عنه: «يتنصلون إلى العزيز مِن التشبه به، ويذكرون أن هذا فعل كما فعل أخ له مِن قبل، يعنون به يوسف عليه السلام»، قال سعيد بن جبير عن قتادة: «كان يوسف عليه السلام قد سرق صنمًا لجده أبي أمه فكسره»، وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال:

«كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام مِن البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق عليه السلام، وكانت أكبر ولد إسحاق عليه السلام، وكان عندها منطقة إسحاق عليه السلام -وهي ما يلف على الوسط-، وكانوا يتوارثونها بالكبر، فكان من اختبأها ممن وليها كان له سلمًا لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء، وكان يعقوب عليه السلام حين ولد له يوسف عليه السلام قد حضنته عمته، وكان لها به وَلَهٌ -أي: حب شديد- فلم تحب أحدًا حبها إياه حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات، تاقت إليه نفس يعقوب عليه السلام، فأتاها فقال:

يا أخية؛ سلمي إلي يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت:

فوالله ما أنا بتاركته، ثم قالت:

فدعه عندي أيامًا أنظر إليه، وأسكن عنه لعل ذلك يسليني عنه أو كما قالت، فلما خرج مِن عندها يعقوب عليه السلام، عمدت إلى منطقة إسحاق عليه السلام، فحزمتها على يوسف عليه السلام مِن تحت ثيابه، ثم قال: فقدت منطقة إسحاق عليه السلام، فانظروا مَن أخذها؟

ومَن أصابها؟

فالتمست، ثم قالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم، فوجدوها مع يوسف عليه السلام، فقالت: والله إنه لي لسلم -أي: يسلم لها- أصنع فيها ما شئت، فأتاها يعقوب عليه السلام فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، فما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه يعقوب عليه السلام حتى ماتت، قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف عليه السلام حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)». اهـ.
 
وهذا والذي قبله مِن الآثار الإسرائيلية التي لا تصدق ولا تكذب، وإن كان لا بد مِن التنبيه على أن ما تضمنته هذه القصص مِن اتهام من لا يعرف عنه تهمة يجب رده خصوصًا من كان مِن آل الأنبياء أو أصهارهم؛ فاتهام صهر يعقوب عليه السلام بأن له صنمًا تهمة بلا بينة، ولا ينبغي الظن بيعقوب عليه السلام أن يصاهر مَن يتخذ الأصنام، إلا أن يكون المقصود به تمثالًا لا يعبد، فيكون الأمر أهون لاحتمال أن يكون جائزًا في شرعتهم، ولكن في الأصل أيضًا أن تصوير ذوات الأرواح مضاهاة للرب سبحانه؛ فهو أمر متعلق بالتوحيد فلا تختلف فيه الشرائع فيكون ممنوعًا ابتداءً.
 
وكما في قوله تعالى عن سليمان عليه السلام: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ)، ليس هناك ما يدل على أنها من ذوات الأرواح، ولذا لا ينبغي إساءة الظن بصهر نبي في شرك أو معصية بلا دليل يجب التسليم إليه، وكذا قصة ابنة إسحاق عليه السلام وحيلتها بالكذب لتأخذ يوسف عليه السلام مِن أبيه بغير حق مما ينبغي عدم قبوله؛ لأنها ابنة نبي وأخت نبي وعمة نبي؛ فهي لم تثبت عنها هذه الحيلة غير الشرعية، بخلاف حيلة يوسف عليه السلام لأخذ أخيه؛ فإنها كانت لإنقاذه مما فعله إخوته به، فهم قد امتلأت قلوبهم حقدًا وحسدًا عليه حتى لو كان فيه إيلام يعقوب عليه السلام، إلا أنه إذا علم أن هذه الحيلة إنما كانت لمصلحة بنيامين -وهي تقدير الله وتوفيقه- لرضي بذلك قطعًا، وقد كان.
 
الغرض المقصود أننا لسنا بحاجة إلى هذه القصص، فإن هذه التهمة التي اتهمها إخوة يوسف عليه السلام تهمة باطلة على أية حال، وغير مستغرب منهم تلفيق تهمة باطلة، سواء أكانت مبنية على واقعة معينة حرَّفوها وأوَّلوها على غير وجهها، أم كانت مختلقة مِن أصلها، وليس مثل هذا بمستبعد عمن ملأ الحسد قلبه، فإنه إن لم يجد ما ينتقص به محسوده اختلق واخترع ما ينتقصه، فهم يريدون عيب يوسف عليه السلام بما ليس فيه وربما لا يليق به حتى في طفولته، فإن سجايا الأنبياء وصفاتهم الجبلية التي فطرهم الله عليها هي أكمل السجايا والصفات، والسرقة نوع من الخيانة تنفر النفوس منها، حتى لو وقعت مِن إنسان حال طفولته وعرفت عنه، ولذا كانت مقالة إخوة يوسف عليه السلام عيبًا وطعنًا فيه يستشفي الحسود بها غلّه وحقده، حتى ولو كانت الواقعة المدَّعاة حال الطفولة، فتكون مسبَّة له مر الدهر، فينزه عنها الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
 
وتأمَّل كيف كانت محاولتهم التنقيص مِن يوسف عليه السلام سببًا لنقصهم هم، فهم يواجهون يوسف عليه السلام بالطعن فيه جاهلين أن العزيز هو يوسف عليه السلام، فأمر يوسف عليه السلام في نفسه قوله عنهم: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ)، فكل مَن رام تنقيص غيره بالباطل واتهامه بما ليس فيه رغبة في وجاهة عند ذي سلطان أو عند أحد مِن الخلق، فإن عاقبة مكره السيئ تعود عليه، فيحصل له النقص عند ذي السلطان وعند الناس جميعًا، ووالله إن هذه الكلمة التي قالوها عن يوسف عليه السلام وأخيه لتجعل قلوب المؤمنين في كل زمان ومكان تشعر بنقيصتهم وسوء مقالتهم وفساد قلوبهم تجاه أخويهم اللذين هما أفضل منهم بلا شك، وهكذا كل معتاب نمام، فإنه بغيبته ونميمته لمن يكرهه إنما يرفع قدره ويضع مِن قدر نفسه، ويُبغِّضها للناس ثمرة ونتيجة لعمله الذي يبغضه الله عز وجل، بل كل سالك لغرض من أغراضه سبيلًا خلاف سبيل الحق، فإنه يحصل له في عاقبة الأمر عكس ما قصده، فهم حين أرادوا أن يخلو لهم وجه أبيهم بإبعاد يوسف عليه السلام عنه، ما ازدادوا مِن أبيهم إلا بُعدًا، وما ازدادوا ليوسف عليه السلام إلا حُبًّا.
 
وأتعجب مِن نفسي ماذا يكون شعور إخوة يوسف عليه السلام وظنهم لو علموا أن الذي يعنون بالسرقة مِن قبل هو هذا الملك العزيز أمامهم؟!

كيف كان خجلهم وفضيحتهم؟!

ثم لو كان صدقًا فما الحاجة في أن يذكروا أمام ملك غريب منهم فضائح إخوتهم، كأن عائلتهم عريقة في السرقة؟!

وهل هذا إلا فضيحة لأنفسهم مِن حيث أرادوا تبرئتها؟! فكأنهم يثبتون الجريمة على أخيهم ويؤكدون أنها صفة لازمة في الأسرة، ماذا يصنع الحقد بأهله؟!

وماذا يدمر الحسد من صورة صاحبه؟! وكما قيل: لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله، ثم تأمل حلم يوسف عليه السلام المظلوم أولًا والمظلوم ثانيًا، الذي يملك أن ينتقم وينتصر ويواجه الباطل بباطله، ولكنه يحلم ويكظم غيظه، ولا يزيد على أن يحدث نفسه بمقالة يقول: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا)؛ أي: مما وصفتم به أخاكم كذبًا وزورًا، نعم والله؛ فإن من سرق أخاه من أبيه النبي وباعه رقيقًا شر ممن سرق صنمًا أو منطقة أو غير ذلك لو كان شيء من ذلك.
 
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) هذا الأسلوب القرأني الرائع في رد العلم إلى الله فيما لا فائدة مخن معرفته؛ غالله أعلم بحقيقة ما وقع من يوسف عليه السلام مما جعل إخوته يصفونه بهذا الوصف الباطل، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) ثم تكون نهاية الأمر عند يوسف عليه السلام بعد الحلم وكظم الغيظ والصفح والمغفرة، بل الدعاء والتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته أن يغفر لهم: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ  وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، ما أحلمه! وما أكرمه! وما أجمله خَلقًا وخُلُقًا! فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام-.
 
وقوله تعالى: (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ)؛ أي: الكلمة التي قالها في نفسه أسرها ولم يظهرها، وهي قوله: (أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) وهو مِن باب ذكر الضمير قبل الاسم الذي يعود عليه، قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه: «أسر في نفسه (أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ)؛ أي: تذكرون، والله أعلم».