لبيك اللهم لبيك

  • 165

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد؛

وسط تلبية الملايين مِن حجاج بيت الله الحرام «لبيك اللهم لبيك»، ونحن نسمع أصواتهم؛ تتجدد في القلب حاجة ضرورية أشد مِن حاجة البدن إلى الطعام والشراب؛ حاجته إلى إجابة أمر الله، حتى وإن لم يكن حاجًّا، فهو يحتاج إلى هذه التلبية، ولقد ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل وهو حلال «لبيك وسعديك»، وأظن أنه مِن ذلك أخذ الإمام أحمد رحمه الله جواز التلبية للحلال، فحول معنى التلبية التي نحتاجها أعظم احتياج نتذكر هذه المعاني الإيمانية:
 
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لبيك وسعديك» هذه التلبية وهي تلبية مِن غير المُحْرِم، لا تختص بحال أو زمن أو مكان، كنز عظيم يفجر في القلب ينابيع الحب والشوق إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان الصغير الضعيف المحتاج الذي لا يشغل مِن الزمان والمكان شيئًا يذكر، بل وجوده كالهباءة المنثورة؛ إذا استشعر أن الله سبحانه هو الخالق العليُّ الكبير العظيم الغني الأول الآخر الظاهر الباطن القوي العزيز يريده ويناديه -على ألسنة رسله وفي كتبه المنزلة-، يريده لعبادته ومحبته، واصطفاه مِن بين خلقه لنوع خاص مِن العبودية إذ أوجده في وسط المخالفات ليعرفه ويعبده، فالعبد في نفسه مخالفات: شهوات ورغبات محرمة، وحوله مخالفات: شياطين الإنس والجن وأعمالهم، ومكرهم وكيدهم، وهو سبحانه اجتباه مِن ذلك، واختصه بأعلى أنواع التكريم، وأمره ونهاه، ودعاه إليه في دار السلام، وهداه الصراط المستقيم.
 
فأنت أيها المؤمن كنت مرادًا حتى تكون مريدًا مخلصًا، وأُخْلِصْتَ فَأَخْلِصتَ، كنت قبل وجودك مِن أهل قبضة اليمين وعرفك الشيطان فاستثناك مِن الإغواء حين قال: ?فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ? (ص: 82) فأنت مِن المخلَصين حتى تكون مِن المخلِصين وربك يناديك.
 
فما أجلّ أن تقول، وما أعظم أن تقول، وما أحلى أن تقول: «لبيك» أنا يا رب ذاهب إليك، مجيب لأمرك بقلبي وبدني ?وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى? رَبِّي سَيَهْدِينِ? (الصافات: 99) هل تحاول استشعار معنى ?إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى? رَبِّي? ومعنى الهجرة بالقلب والسفر إليه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والمهاجر مَن هجر ما نهى الله عنه». (رواه البخاري)، «العبادة في الهرج كهجرة إليَّ» فلماذا كانت العبادة في الفتن تماثل ثواب الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم؟ لأنها هجرة بالقلب إلى سنته وطريقته في عبادة الله، فهل نلج وندخل باب هذا الفضل العظيم في زمان الفتن؟ فرصة عظيمة، ان نكون مِن المهاجرين، فهل نغتنمها؟ «لبيك وسعديك».
 
وليست الإجابة لله سبحانه مرة واحدة ثم تنقطع، بل هي إجابة بعد إجابة، وإقامة بعد إقامة على طاعته، ومساعدة بعد مساعدة لأمره، والمقصود بالمساعة الكونُ في أمره وخدمته، وليست بمعنى المعاونة التي في حق البشر، بل الإسعاد معناه: أن يكون في الخدمة والطاعة، وإن كان لفظ الخدمة لم يَرِد في الكتاب والسنة، فتختار عنه لفظ العبادة والطاعة والانقياد لأمره سبحانه مرة بعد أخرى، أي هو قد أعلن الإجابة وواظب عليها، وأقر بالطاعة وامتثال الأمر وواظب على ذلك، قال: آمنت بالله ثم استقام، كما أخبر سبحانه عن عباده المؤمنين: ?إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ? (فصلت: 30)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم فاستقم»، وهذه التلبية يحتاجها المؤمن دائمًا، ولذا شرعت في هذا الدعاء كما شرعت في الحج والعمرة، وقد قال الإمام أحمد: «لا بأس بالتلبية للحُلَّال» وهذا الحديث دليل على مشروعية ذلك. وهي مِن الأذكار العظيمة التي تعرف العبد حقيقة السلعة التي معه، روحه ونفسه، فليضن بها أن يبيعها بالثمن البخس، وشعور العبد بأن الله أراده؛ يجعله يكاد يذوب حبًّا وشوقًا لله سبحانه وانقيادًا وذلًّا، يجعله مجيبًا على الفاقة، أي: مجيبًا لأمره سبحانه مستشعرًا شدة فقره وفاقته إلى الله في هذه الإجابة، أي: يحقق إياك نعبد بالإجاب، وإياك نستعين بالفاقة والفقر إلى الله إلهًا معبودًا محبوبًا، فأي منه أجل مِن هذا؟! وهل نستحق كل هذا العطاء؟! إنما هو محض الجود والكرم والمن.
 
قال ابن القيم رحمه الله:
 
فما كل عين بالحبيب قريرة *** ولا كل مَن نودي يجيب المناديا
 
قرة العين كناية عن الراحة والسرور والطمأنينة التامة وعدم التطلع إلى ما سوى المحبوب، فليست كل العيون قريرة بالله سبحانه، بل إنما خص سبحانه بذلك خواص خلقه الذين وجدوه؛ أي: وجدوا حبه وقربه والطريق الموصل إليه حتى تكون نهايته النظر إلى وجهه في الدار الآخرة، فمن قرت عينه بالله إذا وجده فليحمد الله على أجلِّ نعمة، ومَن أجاب داعي الله، فليدرك قدر هذه المنة؛ فليس كل أحد يجيب المنادي والداعي إلى الله، وأنت أيها المؤمن أجبت، ووجدت وتلذذت بالعبادة وذقت طعم الإيمان، فاللهم نسألك مزيد فضلك ورحمتك، وحبك ورضوانك ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
 
ومَن لا يجب داعي هداك فخله *** يجب كل من أضحى إلى الغي داعيا
 
وقل للعيون الرمد : إياك أن تري *** سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا
 
وسامح نفوسًا لم يهبها لحبهم *** ودعها وما اختارت ولا تك جافيا
 
وقل للذي قد غاب: يكفي عقوبة *** مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيا
 
ووالله لو أضحى نصيبك وافرًا *** رحمت عدوًّا حاسدًا لك قاليا
 
ألم تر آثار القطيعة قد بدت *** على حاله فارحمه إن كنت راثيا
 
خفافيش أعشاها النهار بضوئه *** ولاءمها قطع مِن الليل باديا
 
فجالت وصالت فيه حتى إذا النـ *** هار بدا استخفت وأعطت تواريا
 
إذا ظلمة الليل انجلت بضيائها *** يعود لعينيه ظلامًا كما هيا
 
فضن بها إن كنت تعرف قدرها *** إلى أن ترى كفؤا أتاك موافيا
 
فما مهرها شيء سوى الروح أيها الـ *** ـجبان تأخر لست كفؤًا مساويا
 
فكن أبدًا حيث استقلت ركائب الـ *** ـمحبة في ظهر العزائم ساريا
 
وأدلج ولا تخش الظلام فإنه *** سيكفيك وجه الحب في الليل هاديا
 
وسقها بذكراه مطاياك إنه *** سيكفي المطايا طيب ذكراه حاديا
 
وعدها بروح الوصل تعطيك سيرها *** فما شئت واستبق العظام البواليا
 
وأقدم فإما منية أو منية *** تريحك من عيش به لست راضيا
 
فما ثم إلا الوصل أو كلف بهم *** وحسبك فوزًا ذاك إن كنت واعيا
 
أما سئمت من عيشها نفس واله *** تبيت بنار البعد تلقى المكاويا
 
أما موته فيهم حياة؟ وذله *** هو العز والتوفيق ما زال غاليا
 
أما يستحي مَن يدَّعي الحب باخلًا *** بما لحبيبٍ عنه يدعوه ذا ليا
 
أما تلك دعوى كاذب ليس حظه *** مِن الحب إلا قوله والأمانيا
 
ولعله أن يكون لنا شرح لهذه القصيدة الرائعة في موضع آخر إن شاء الله.