مراتب المحبة

  • 239

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد؛
ففي المقال السابق بعنوان «لبيك اللهم لبيك» تعرَّضنا لقصيدة ابن القيم، ووعدنا بأن يكون لنا وقفة مع بيان بعض معانيها، وها نحن نشرع في ذلك.
 
قال رحمه الله:

ومَن لا يجب داعي هداك فخله *** يجب كل من أضحى إلى الغي داعيا
يعني: أن مَن لا يستجيب لداعي الهدى الذي أنت عليه أيها المؤمن المحب فخله؛ أي: أتركه ولاتنشغل به؛ فإنها نوعية من البشر لاتصلح، قال تعالى: "فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ" (الذاريات: 45) فبعد تكرار البيان وتوضيح الدعوة إذا كان الإعراض وعدم الإجابة هو النتيجة؛ فاعلم أن الله لايريد به خيرًا، فاتركه وانشغل بغيره؛ لأن هذا الإنسان المريض بل الميت سوف يجيب كل داعٍ إلى سبيل الغواية ويقبل الباطل ويجيبه ?أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ? (العنكبوت: 67).
 
وقل للعيون الرمد: إياك أن ترى *** سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا
يعني: أن مَن لم يرَ هذا الحق الذي هو أوضح مِن نور الشمس وهو دين الله الذي ابتعث به رسالة فعينه هي المريضة بها رمد عين قلبه، فلا يبصر الحقيقة، فقل له على سبيل الاستخفاف به: أنت لا تصلح لرؤية نور الحق وإنما يناسبك الحجاب والغطاء والظلام مثل ظلمة الليالي: ?وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَ?ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? (يونس: 27)، وقال تعالى: ?أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ? (النور: 40) ومعنى استغشى، أي: تغطى بظلمة الليل الذي أنت فيه، ليل الكفر والظلم والفسوق والعصيان والنفاق.
 
وسامح نفوسًا لم يهبها لحبهم *** ودعها وما اختارت ولاتك جافيا
قال تعالى: ?قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ? (الجاثية: 14) فهذه المسامحة والصفح والعفو في الدنيا وعدم الانتقام من أصحاب النفوس التي لم يهبها الله مِن فضله ولم يهيئها لحبه عزوجل -لحبهم: الجمع هنا للتعظيم- واترك هذه النفوس وما اختارته من طرق الضلال والغي؛ فإنهم مساكين -المسكنة المذمومة- هم في شقاء وعذاب، فلاتكن جافيًا -أي: غليظًا- عليهم فوق ماهم فيه من العذاب والنكد، وليس المقصود عدم الغلظة في المعاملة التي أمر الله بها عند جهادهم: ?وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ? (التوبة: 73)، ?وَلِيَجِدُوا فِيْكُمْ غِلْظَة? (التوبة: 123)، بل هذه الغلظة رحمة بهم في الحقيقة لعلهم يرجعون، وإنما المقصود -والله أعلم-: لا تكن متمنيًا لهم الضلال، والهلاك وتحدث نفسك بالانتقام منهم لنفسك عقوبة منهم على ما ظلموك، والهلاك وتحدث نفسك بالانتقام منهم لنفسك عقوبة منهم على ماظلموك، يكفيهم عقوبة ما هم فيه من البعد عن الله.
 
وقل للذي قد غاب: يكفي عقوبة *** مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيا
فلو لم يكن مِن عقاب للكفرة والظلمة الذين غابوا عن حب الله ومعرفته وعبادته بشهواتهم الوقتية المملوءة بالتعب والنقص لكفى بها عقوبة، فمغيبهم عن هذا الشأن -شأن الإجابة لأمر الله والمحبة له- هو أشد عقاب، وحجاب قلوبهم عن الله أقسى عذاب، كما أن حجابهم عن الله يوم القيامة أشد عذابهم: ?كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ? (المطففين: 15) لو كان الغائب هذا واعيًا عاقلًا لأدرك أنه في عقوبة، ولكنه لا يدري ولا يعقل ولا يعي.
 
ووالله لو أضحى نصيبك وافرًا *** رحمت عدوًّا حاسدًا لك قاليا
أي: لو أصبح نصيبك -أيها المؤمن- مِن الإيمان والحب والعبودية لله وافرًا كبيرًا لرحمت أعداءك الحاسدين لك الكارهين (القالي: الكاره المبغض) الذين يؤذونك ويحقدون عليك، ورحمة الأعداء المؤذين للمؤمنين والشفقة عليهم لما هم فيه مِن الجهل؛ سنة ماضية عن الأنبياء وأتباعهم، قال الخليل عليه السلام: ?فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? (إبراهيم: 36)، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا مِن الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ربِّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
 
وقال تعالى عن مؤمن آل ياسين: ?قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ? (يس: 26- 27)، هذا ما لم تمت على الكفر أو يعلم نبيه بوحي أن هذا العدو يموت كافرًا، قال تعالى: ?وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ? (التوبة: 114) وذلك حين مات كافرًا.
 
وقال موسى وهارون عليهما السلام في دعوتهما على فرعون وجنده: ?فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ? (يونس: 88)، وقال تعالى عن نوح: ?رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا? (نوح: 26) فلا تعارض بحمد الله، فالأَوْلى للمؤمن ما دام عدوه حيًّا أن لا ينتمى هلاكه على الكفر، وأن لا يدعو عليك بذلك، بل يرحمه لما هو فيه من العذاب، عذاب الحسد قاتل لسعادة الإنسان وحياة قلبه مانع من الإيمان، وعذاب كراهية الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب الباطل، فأنه يقضي كراهية العبد لنفسه ومقته لها؛ إذ مقته الله عز وجل وأبغضه فأبغضه كل شيء حتى نفسه ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ? (غافر: 10) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا أحب عبدًا؛ دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل. فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض).
 
وقال تعالى: ?فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ? (الدخان: 29)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب»، فلو كان نصيبك -أيها المؤمن- مِن الإيمان وفيرًا كبيرًا لنظرت لمن آذاك في الله بعين الإشفاق؛ إذ هو المحروم مِن أعظم نعيم الدنيا والآخرة، شقي في الدارين، وأنت من الله عليك بأعظم عطاء، فارحم من حسدك، واعف عمَّن ظلمك، وصِلْ مَن قطعك، واعطِ مَن حرمك، فإنك بذلك آخذ أضعاف أضعاف ما أعطيت.
 
ألم تر آثار القطيعة قد بدت *** على حاله فارحمه إن كنت راثيا
ألا ترى أثار المعاصي والذنوب والكفر والنفاق والانقطاع عن الله، عن أمره وإجابة داعيه والعمل بشرعه، ظاهرة على وجوه الكفر والظلمة والفسقة وعلى أحوالهم كلها؟! ألا ترى كيف يقضون أوقاتهم في النكد والعذاب، لا يجدون راحة إلا بغياب عقولهم بالسكر سكر الخمر والمخدرات وسكر الشهوات حتى ينسوا ما هم فيه من البلاء! فارحمهم إن كنت ترثي لأحد وتتوجع على متألم جريح بل مقتول، فأشفق عليهم ولا تتمنَّ مزيد عذابهم.
 
خفافيش أعشاها النهار بضوئه *** ولاءمها قطع مِن الليل باديا
هؤلاء الظلمة وأهل البدع والغي والضلال مثل الخفافيش التي يعميها ضوء النهار؛ أي: نور الوحي المنزل، نور الإسلام والهدى إذا ظهر تألمت وعميت عيونها عن رؤيته ولا تحب النور، هؤلاء والله منهم العلمانيون المنافقون الذين يكادون يموتون كمدًا حين يرون ظهور الإسلام وعودة الناس إليه، واليهود والنصارى والمشركون وأذنابهم أعداء الدين لا يلائمهم ولا يناسبهم إلا فترات الظلام فترات غياب ظهور الشريعة في الأرض ولا يستريحون ولا يطمئنون -وما هم بمطمئنين أبدًا- إلا بذلك، وهيهات لذلك فلا يزال الله يظهر الحق ويعلي الدين ?أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ? (الأنبياء: 44).
 
فجالت وصالت فيه حتى إذا النـ *** هار بدا استخفت وأعطت تواريا
هؤلاء المجرمون يصولون ويجولون ويمرحون بباطلهم في فترات انتصار الباطل المؤقت والذي قدره الله -وليس من صنعهم هم- امتحانًا لعباده المؤمنين ليعبدوه في فترات الإحراق قبل أن تأتي مدة الإشراق، فكما أن الليل والنهار مِن خلق الله؛ فالاستضعاف والتمكين ومداولة الأيام بين الناس هي من أفعاله سبحانه، وإنما يصول أهل الكفر والظلم في الظلام، يظنون أنهم هم الذين صنعوه ومنعوا ظهور الإسلام، وليس والله في قدرتهم: ? يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ? (التوبة: 32، 33) فسوف يطالع النهار ويشرق النور -نور الدين الحق- ولو كره الكافرون، وعند ذلك ستختفي الخفافيش وتتوارى وتسلم بالاختفاء والتواري، وإنما قدر الله ذلك ليعلم من يجيب في فترة الظلام ويسير إليه سبحانه، رغم الظُّلمة والظَّلمة، وإلا فعند ظهور نور الشمس يستيقظ كل الناس.
 
فيا محنة الحسناء تهدى إلى *** امرئ ضرير وعنين من الوجد خاليا
إذا ظلمة الليل انجلت بضيائها *** يعود لعينيه ظلامًا كما هيا
يشبه رحمه الله مسألة المحبة إذا ألقيت على سمع مبتدع أو كافر أو منافق، أو غارق في شهوات نفسه البهيمية والإبليسية؛ بحسناء وضيئة زفت إلى رجل أعمى وعنين لا قدرة له على معاشرة النساء خالٍ من الحب، ما أبغضه من شخص؟! وما أسوأ معاملته للحسناء؟! لا يمكن أن يعاشرها ولا أن يرى جمالها، حتى إن جمالها ليذهب ظلمة الليل، فجمال مسألة المحبة والعبودية لله يضيء ظلام ليل القلوب، ولكن الأعمى والعنين لا يعاشر والخالي من الحب لا يحب أحدًا فأنى يقبل هذه المسألة؟! وكيف يجد لها طعمًا؟! وكيف يفهم لها معنى أو يذوق لها حلاوة أو يرى قبسها؟ فإنها ككتاب الله؛ لأنها منه ?لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ? (الواقعة: 79) فلو كلمت واحدًا من هؤلاء عن العبويدية والحب وعن «لبيك وسعديك» عاد الضياء في عينيه ظلامًا وبقيت عيناه مظلمتين كما هما من قبل عرض هذه المسألة عليه، فإذا كان الأمر كذلك فلا تعرضها عليه ولا تحاول معه ما دامت وجدت إعراضًا.
 
فضن بها إن كنت تعرف قدرها *** إلى أن ترى كفؤا أتاك موافيا
فابخل بهذا العلم عن غير أهله، إن كنت تعرف قدره، وليس معنى ذلك عدم عرضه على الخلق ابتداءً، بل لابد من البيان، ولكن إذا وجدت الإعراض والغفلة والعمى فابتعد حتى ترى من يصلح هذا الشأن وعلمه هذا العلم وبينه له فهو الذي يقبله وهو كالكفء للحسناء أتاك مواتيًا؛ أي: موافقًا على بذل مهر المحبة وهو التضحية والبذل للنفس والمال.
 
فما مهرها شيء سوى الروح أيها الـ *** ـجبان تأخر لست كفؤًا مساويا
إذا أردت أن تكون محبًّا محبوبًا فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فنفسك وروحك إذًا إن كنت قبلت البيع ليست ملكًا لك، فسلمها لمالكها يفعل بها ما يشاء، وهو قد وعدك أن يحفظها عليك ويردها عليك أوفر مما كانت، أما من لا يريد البذل ولا التضحية ولا يرديد أن يصاب في سبيل الله؛ فهو الجبان عن البذل، فليتأخر فليس أهلًا للمحبة، ولا صالحًا لهذا البيع، لست كفئًا لهذه المسألة العظيمة لا تصلح لها، ولا تصلح لك ?مْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى? يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ? (البقرة: 214).
 
فكن أبدًا حيث استقلت ركائب الـ *** ـمحبة في ظهر العزائم ساريا
فكن أيها المؤمن حيث أمرك الله شرعًا أن تكون، وافعل ما يحبه الله وما يقتضيه حبه من اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا الحب يحملك حملًا إلى المنازل العالية في أسرع وقت وفي أهنأ سفر وأكثره راحة بلا عناء ولا تعب، سور دائمًا بالعزيمة والإرادة الجازمة لوجه الله، فالإرادة الصادقة منك له سبحانه على ظهرها تسير إلى بلاد الأفراح.
 
وأدلج ولا تخش الظلام فإنه *** سيكفيك وجه الحب في الليل هاديا
يقول: سر في الليل، سر والناس نيام، استجب لله وأكثر الخلق لم يستجيبوا بعد، التزم بطاعته وأكثر الناس في غفلة عن ذلك نتيجة عدم ظهور الإسلام ونوره في بلاد الأرض، ولا تخشَ الظلام، ولا تخشَ مِن انتشار الباطل وشبهاته وشهواته وسيطرته الزائفة، فيكفي إرادتك لوجه الله الذي تحبه أعظم الحب هاديًا لك منيرًا لك الطريق وسط الشبهات والشهوات.
 
وسقها بذكراه مطاياك إنه *** سيكفي المطايا طيب ذكراه حاديا
وسق نفسك وقلبق رغم الظلمة والانفراد ووحشة الطريق؛ بذكر الله سبحانه، فإن ذكره سبحانه سيكفي قلبك مهونًا عليه عناء الطريق ووحشته، بل مؤنسًا محببًا السير كالحادي للإبل، بل أعظم بلا شك ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ? (الرعد: 28).
 
وعدها بروح الوصل تعطيك سيرها *** فما شئت واستبق العظام البواليا
وعد نفسك إذا تعبت مِن متاعب الطريق وأذى الأعداء ووحشة الانفراد بالروح؛ أي: الراحة التي تحصل لها عند الوصول إلى المحبوب وما يكون لها مِن أنواع الإكرام والإنعام في الجنة والفوز برضوان الله تعالى، والنظر إلى وجهه، فالرجاء مِن أعظم ما يعين العبد على تحمل المصائب والمشاق في طريق الدعوة والعمل لله سبحانه، فسوف تعطيك النفس سيرها كما تشاء، وسوف تنطلق بأسرع سرعة، واسبق الأموات؛ أي: مَن لم يعرفوا ربهم، ولم يوحدوه، ولم يحبوا أمره، بل هم صاروا لطول موت قلوبهم كالعظام البالية.
 
وأقدم فإما منية أو منية *** تريحك من عيش به لست راضيا
أقدم في طريق الدعوة إلى الله، فإن لك إحدى الحسنيين: إما تحقيق ما تتمناه مِن النصر والتمكين، فضلًا عما تجده مِن الله وحب الكائنات، وذوق حلاوة الإيمان؛ وإما موت في سبيل الله فهي الشهادة "منية" موتة تريحك مِن عيش الدنيا الذي لا ترضى به ولا ترتاح فيها لا أنت ولا غيرك، فلا راحة فيها لمؤمن ولا لكافر، لا راحة فيها إلا في طاعة الله ومحبته وإجابة أمره.
 
فما ثم إلا الوصل أو كلف بهم *** وحسبك فوزًا ذاك إن كنت واعيا
فليس في الطريق إلى الله إلا أن تصل إليه إذا مت على الحق فقدمت على الله أو حييت على الحب والانشغال بأمره وهو الكَلَف؛ أي: شدة الانشغال بحبه وطاعته، وكفى بهذا فوزًا معجلًا في الدنيا لو كنت تدرك الحقيقة، فليس ألذ وأهنأ مِن طعم الإيمان.
 
أما سئمت من عيشها نفس واله *** تبيت بنار البعد تلقى المكاويا
أما مللت العيش مِن أجل شهواتها فعيش النفس المتعلقة بالدنيا عيش كئيب مُمِلّ يلقى الإنسان فيه نار البعد عن الله ويكوى جسده بل قلبه بآلام المعاصي والذنوب التي تبعده عن الله، وَالِهٍ هو المحب لشهوات الدنيا، والنفس عندهم الصفات المذمومة في الإنسان.
 
أما موته فيهم حياة؟ وذله *** هو العز والتوفيق ما زال غاليا
ترغيب في البذل بذل النفس في سبيل الله، فإن الموت في سبيل الله هو الحياة (موته: موت العبد) فيهم: أي في سبيل الله، والجمع للتعظيم، قال تعالى: ?وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ? (آل عمران: 169- 170) وذل العبد له هو العز بعينه، وما إهانة الناس في سبيل الله واعتبروه ذلًّا وصغارًا في أعينهم هو العز بعينه، وعن قريب سوف يعلمون، كما علمت امرأة العزيز أن سجن يوسف لم يكن صغارًا وذلًّا، بل كان ملكًا وعزًّا، قال تعالى: ?وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ? (آل عمران: 123)، فكان ذلهم في أعين الناس لقتلهم، وكانوا هم الأعزة بطاعة الله والجهاد في سبيله، وأكثر الناس لا يعرفون هذه الحياة وهذا العز، وإنما يوفق لفهم هذه الأمور القلة مِن الناس والأفذاذ مِن العالم، ولذا فالتوفيق الذي هو من الله هو أمر غال نادر لا يمن الله به إلا على من هو أهل له.
 
أما يستحي مَن يدَّعي الحب باخلًا *** بما لحبيبٍ عنه يدعوه ذا ليا
ألا يستحي مَن يدعي حب الله وهو لا يريد أن أن يضحي من أجله بماله ونفسه وكل ما عنده ويبخل عنه به مع أنه في الحقيقة ملك له ليس لمدعي المحبة، وهو يقول لك: هذا لي اتركه ولا تنازع، ومع ذلك تقول له: لا، لا أريد أن أعطيك وتبخل عمن تحب بما يملكه ولا تملكه، وهو يطلبه منك ولا تريد بذله، وبعد ذلك تدعي المحبة؟! أما تستحي من هذه الدعوى؟!
 
أما تلك دعوى كاذب ليس حظه *** مِن الحب إلا قوله والأمانيا
فليس صادقًا في معنى الحب من لم يبِع لله سبحانه نفسه وماله ويفوض أمره إلى الله ويتوكل عليه ويسلم وجهه إليه، وإنما نصيبه من الحب مجرد الكلام والتمني، وليس له من حقيقة الحب نصيب، فاللهم نسألك حبك وحب من أحبك والعمل الذي يبلغنا حبك، واجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد.
 
اللهم لك أسلمنا وبك آمنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا وبك خاصمنا وإليك حاكمنا، اللهم إنا نعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أن تضلنا، أنت الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.