معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون

  • 631

إن من أهم الأمور التي يحتاجها الداعي والمصلح في مسيرته للإصلاح أن يُدرك حقيقة مهمته التي كلفه الله بها، حتى لا يصيبه الإحباط، إذا لم يجد ما يرجوه من نتائج.
فحدود هذه المهمة تتلخص في قول الله تعالى في قصة أصحاب السبت {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى? رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}؛ فهي مهمة بذل الجهد في الأمر بالخير والنهي عن السوء والشر والفساد، ومع الإخلاص لله.
 
وليست مهمتهم أن يتحقق ذلك، إذا بذلوا كل ما في وسعهم، وتوكلوا على ربهم؛ فالنتائج ليست عليهم؛ ففي قصة أصحاب السبت لم يحصل التغيير المنشود، وظل أكثر أهل القرية على فسادهم واعتدائهم في السبت وقد عاقبهم الله تعالى، ولكن الدعاة إلى الله تعالى لم يغِب عنهم أن واجبهم هو الإعذار إلى الله؛ أي إقامة عذرهم عند الله أنهم بذلوا ما في وسعهم للإصلاح، ولكنهم لم يستطيعوا أن يغيروا الواقع لإصرار أهل المعصية والفساد، وعدم القدرة عند أهل الإصلاح للتغيير الملموس، فلم يكونوا أصحاب سلطة ولا قدرة، ثم هم لم يفقدوا الأمل في الأثر، لأجل دعوتهم الإصلاحية {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}؛ فالنفع المرجوُّ ليس فقط هو النفع العاجل بصلاح حال المفسدين؛ بل هناك ستة أنواع مِن النفع في التذكير، هذا واحد منها، وهو الاستجابة من المدعوِّ والتذكر فورًا،
 
الثاني: الاستجابة المتأخرة بعد حين "ولعلهم يتقون" واضرب علي ذلك مثالا منذ أربعين سنة لم يكن الحجاب منتشرا في مجتمعنا بل كانت المرأة تصل إلي سن الستين ولم تغطي شعرها ولا ساقها، اما الفتيات فحدث ولا حرج.
وبدأت الصحوة الإسلامية ودعا دعاة الخير والإصلاح إلي الحجاب ثم النقاب وبالتأكيد لم تستجب كل النساء ولكن استقر في النفوس وجوب الحجاب وكان التشريع هو الداء الذي  يؤجل الاستجابة لكن صح الاعتقاد في وجوبه ورؤية التقصير والذنب في تركه إلي الزواج أو إلي كبر السن قليلا وانظر إلي الواقع اليوم إذا نظرت إلي أي امرأة دون الأربعين بل ربما فوق الخمسة والثلاثين قلما تجد امرأة متبرجة أو علي الأصح كاشفة شعرها لأنها قد عقلت عند كبر سنها وبعد زواجها ضرورة الحجاب، وحصلت الاستجابة المتأخرة ولو جزئيا.
 
الثالث من منافع الذكرى : استجابة غير المحتسب عليه ممن لم يخاطب الداعي كطفل صغير بدلا من أن يستقر في نفسه جواز السب واللعن، وربما سب الدين بل سب الله عز وجل، وشرعه في بعض المجتمعات، يستقر في نفسه ذم لك لأنه رأى شخصاً ينكر علي من سب ولعن.
 
والرابع هو استجابة المحتسب عليه نفسه.
 
والخامس من وجوه النفع الانتفاع الخاص للأفراد الذين استجابوا لدعوة الير والإصلاح.
 
والسادس هو النفع العام للمجتمع، وظهور الأمر والنهي وهذا يمنع العقاب العام، فالله يعاقب الأمم بعقوبة عامة على ذنوبهم إذا كثر الخبث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث" أما مع ظهور الأمر بالمعروف والنهي عن الفساد والمنكر فإن العقوبة لاتعُم، كما وقع في قصة أصحاب السبت {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} فنفع المجتمع بوجود دعوة الإصلاح ووجود فريق من الصالحين المصلحين بعدم العذاب العام دل عليه قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي وفيهم من يستغفر- لكن إذا كثر الخبث عم العقاب وبعث المؤمنون على نياتهم.
 

فالمهمة أن نبذل كل مافي وسعنا وعلى طريقة الحق دون تبديل في الثوابت بشرط فهم معنى الثوابت الحقيقية وليس المتوهم عند بعض الجهال، فالثوابت هي البينات {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ومن خالف نصًّا (آية محكمة من كتاب الله ، أو حديثًا ثابتًا، أو إجماعًا قديمًا للسلف، أو قياسًا جليًّا على هذه الثلاثة) فهو الذي خالف البينات وترك الثوابت، أما تغيير الرأي في أمور اجتهادية أو تغيير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال  أو تغير الموارنة بين المصالح والمفاسد فهذه أمور مارسها أئمة العلم وسادات الأمة عبر الزمان، وجاهل من يجعل التغير فيها تضييعا للثوابت أو تقديماً لتنازلات محرمة باطلة لمصالح موهومة.

 
إذا كان الأمر كذلك فالوجود في المجتمع بنية الإصلاح لله تعالى وفعل ذلك قدر الإمكان تكون به النجاة {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}، فمهما كانت النتائج فالنجاة حاصلة بالنهي عن الفساد وقول كلمة الحق ولو لم يتغير الباطل وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رأى النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد، فلم يقدح في منزلة هذا النبي الذي لم يستجب له أحد أنه لم يتغير الواقع الذي يعيش فيه ولو رجلا واحدًا، فليس عليه ذلك وإنما عليه النية والعمل مع كمال التوكل على الله.

 
أمر آخر لابد أن ننتبه له:

إن طبيعة المسيرة تقتضي تقدمًا وتأخرًا ونصرًا وهزيمة وتمكينًا واستضعافًا {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}
 
فالمطلوب منكم أنواع العبودية في الأوقات والأحوال المختلفة، بل تحقيق النصر على الدوام -مع وجود الذنوب والتقصير- يأباه الحكيم العليم؛ لأنه في هذه الحالة يؤدي إلى تمدد بالوني يضر مسيرة العمل ويغر كثيراً من الناس، فاحذروا أن تقيسوا على ماحدث من هذا التمدد البالوني الذي تبين للعقلاء أنه كان مقصودًا من الأعداء تركه ليسهل عليهم تدميره وتخريبه بأقل من "شكة دبوس"
 
أمامكم عمل طويل وبناء مستمر وإصلاح لعيوب الداخل في النفس والفئة المؤمنة، وتواصل مع الناس وحذر من التحوصل  خارج المجتمع أو ضده  وتآخٍ في الله، وذكر وعبادة لله تعالى، وإصلاح لذات البين، وتنافس على الآخرة وترك التنافس على الدنيا بجاهها ومالها ورئاستها، {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ  وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.