النقد البنّاء .. وجلد الذات .. وقراءة الواقع

  • 174

قال تعالى لأعلى البشر قدرًا، وعقلاً، وخلقا، وحسن ادراك محمد -صلى الله عليه وسلم- {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (188 الأعراف).
 
فكلّ إنسان بصفته إنسانا لا يعلم الغيب، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولو كان حتى رسول الله -صلى الله وعليه وسلم-، إلا ما شاء الله سبحانه له، فلا بد إذن بمقتضى البشرية- أن يحصل له في حياته خلاف ما توقع فيسوؤه ذلك، وإن كان أهل الإيمان يجعل لهم من وراء ما يكرهون خيرًا كثيرًا.
 
 ورغم أنه يتخطى حساباتهم، ويصيبهم مالم يحتسبوا، إلا أن الله جعل أمرهم عجبًا وأنه كله خير، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: عجبًا لأمر المؤمن، إنّ أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.
 
 ومراجعة الحسابات أمر ضروري للإنسان؛ لكي ينظر فيما أخطأ فيه، أو قصر؛ ولكي يتقدم إلى المستقبل بطريقة أفضل؛ ولكي يتعامل في أموره كلها بسلوك أرقى مما كان عليه عقلًا، وتفكرًا، وسلوكًا قلبيًا، وخلقا في معاملة الناس، وحركة في مجتمعه وواقعه، لا لكي يعيش في دائرة الحزن المحيط، الذي يدفعه إلى ترك العمل والاستسلام للواقع المؤلم؛ فيهِن، ويضعف، ويستكين للباطل، الذي يراه في العالم {وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}، وهذا التوازن عند المصائب، والخسائر الظاهرة، كان سلوك النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولم تمنعه عصمته-صلي الله عليه وسلم- أن يقول في أمور اجتهد فيها:" لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما فعلت كذا، أو لفعلت كذا"، مرات عديدة.
 
 فلابد من مراجعة أخطاء الماضي؛ لنصلح المستقبل لا لمجرد جلد الذات لندخل الدائرة المفرغة من الحزن والغم والهم الذي لافائدة منه، بل هو الضرر المحض؛ ولذا كانت الاستعاذة منه في الأحاديث الصحيحة كثيرة "وأعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل".
 
وأسوء من جلد الذات جلد الآخرين، وتعليق الفشل عليهم؛ وأن تقصيرهم هو السبب، مع أن القائل ربما كان المقصر الحقيقي، والمتفرج الناقد في مقاعد الجمهور لايشارك في شيء، ولا يؤدي دوره لا علمًا ولا عملًا ولا دعوة، ولا تواصلًا مع الناس، ولا مشاركةً سياسيةً، ولا اجتماعية ولا مالية، ولا شىء إلا أنه يحسن نقد الأخرين، ويزعم أنه يريد الإصلاح، وهذا محله من الخلل الذي لابد أن ننقذ أنفسنا منه؛ لكي لا نكون كالذين قالوا "لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلوا"، مع أنّ ذنبهم ومعصيتهم كانت من أكبر أسباب الهزيمة.
 
ونقطة أخرى في هذا المقام، وهي أن تقييم التجربة لا ينبغي أن يبنى على معطيات ما بعد النتائج، فنحن لا نعلم الغيب، والواجب تقييم الأخطاء والتقصير، بناء على المعطيات وقت اتّخاذ القرار، مثل المبالغة في تقدير الواقع قوة وضعفًا، وتخطيطًا وترتيبًا، ومعرفة بالقوى المؤثرة، والحجم الحقيقي لنا وسطها، والعوامل المحيطة التي تؤثر على كل متخذي القرار داخل مؤسستنا، وداخل الدولة وفي المنطقة بل وفي العالم، ومثل النظر في البدائل التي كانت مطروحة وقت اتّخاذ القرار وليس بعد حصول نتائج، ربما كان وجه الحياة قد تغير بالكلية لو لم تكن المواقف الأولى قد اتّخذت، ومثل طريقة اتّخاذ القرار، هل كانت بالشورى أم بالاستبداد؟ وهل روعي فيها وجه الله ونصرة الدين أم إرادة الدنيا وهوى النفوس؟ قال تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَة} ومثل درجة الصلة بالله، والحال القلبي عند اتخاذ القرار، وعن العمل فيه، وهل شغلنا عن الذكر والعبادة شاغل كان يلزم أن لا يشغلنا؟ ولنتأمل قوله –تعالى-: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، فهل فعلنا أم قصرّنا بالكلية ولم يقع التوازن في أوقاتنا وأعمالنا فقلت البركة، وأوتينا من قبل أنفسنا؟ " قل هو من عند انفسكم".
 
ولنضرب أمثلة في هذا الباب، لأمور طرحها الأخوة في تعليقهم على ما حدث في الآونة الأخيرة بمراجعة مواقف سابقة مثل: الموقف من الدولة، والموقف من النظام، والموقف من الفصائل المخالفة في الصف الإسلامي، فالبعض طرح في مراجعته الخطأ في كل ذلك، وجعل ينتقد النقد الهدام لا البناء.

وغابت عنه الأمور التي ذكرنا، وأنا أقول: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا لاتخذنا نفس الموقف من الدولة، ولو بالمعطيات المعاصرة، فلم يكن من الممكن أبدا أن نتخذ موقف الصدام الذي أراده البعض واستمر فيه، وكان حريصا أن يموت غيره بدلًا منه لا معه، من أجل أن يصل إلى ما يريد، مستغلاً آلام المظلومين ودماء الضحايا التي لابد أن تسفك فى الصراع الصفري الذي قرره، ثم لم يكن محتملاً أن نتخذ موقفًا يسعى إلى هدم الدولة، كما تصوره من تصوره وخدع في موقف الغرب الساعي في الهدم ولكن بأيدينا، وظن أنه يأتي منهم الخير للحركة الإسلامية، أو على الأصح حركتهم التي يسمونها إسلامية، بل له حركة إسلامية غيرها في معتقدهم، فقد كان البديل هو تضاعف الظلم والدم أكثر من ألف ضعف مقارنة بما حدث، مع إنكارنا لسفك الدماء وظلم الناس، قبل أن يقع وبعد أن وقع وإلى اليوم، سمعه من سمعه وسد أذناه عن السماع وأغشى عينيه عن الرؤية من سد وأغشى.
 
 أما الموقف من النظام: فلا أنكر أنه قد وقعت مبالغات من البعض، وفي مواقف حساسة، ومن أفراد لهم وضع لايمكن التهوين منه، ونسبته إلى أنه أخطاء فردية، لأنه لم يتم علاجها بما ينبغي، وأنا أرى أنه لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا لاجتهدنا أكثر في منع مبالغات وقعت، أو عالجناها بعد وقوعها قبل أن يُصبغ الاتجاه كله بصبغتها، وإن كانت الحقيقة أن جميع ما كان من ذلك لم يكن قرارًا مؤسسيًا، بل بعضه كان مخالفات فردية أخذت صورة المجموع، وإن كان البعض يريد منا أن نكون كالمعارضة في النظام الديمقراطي؛ لا تجد قضية اتخذها النظام الا وأخذنا موقف الضد منها سواء أعلمنا معطيات القرار أو لم نعلم، سواء أدرسنا البدائل أو لم ندرس، فهذه طبيعة المعارضة! فنحن لا نكون كذلك ولن نكون إن شاء الله، كما لم نكن أبواقًا للنظام في كل ما يفعله، ولسنا ولن نكون مرددين لعبارات التعظيم والإطراء حتى فيما لا نعلمه، ومن يراجع مواقفنا في الأحداث الجسام يجد ذلك جليًا، ولعله من أسباب واقعنا الذي نحن فيه، فطريقتنا دائمًا الإعانة على الخير، والنقد البناء -لا الهدام- لما نراه خلاف الحق والصواب، سواء كنا في تحالف مع السلطة أو في اختلاف معها.
 
أما الفصائل الإسلامية الأخرى: فالبعض يحملنا مسئولية التردي الذي وصلت إليه العلاقات بين فصائل الحركة الإسلامية الذي لايكاد يرى البعض أملا في معالجته، ولسنا كذلك بحمد الله، ولكننا نطلب من هؤلاء مراجعة ما حدث من جميع الاطراف من بداية الخلاف في أول العمل السياسي من إنتخابات 2011 وما حدث من تشويه بلا سبب منا، ثم الاختلاف تحت قبة البرلمان، ثم الاختلاف أثناء انتخابات الرئاسة الأولى، ثم ما حدث بعدها من نقض العهود ومخالفة للأخلاق الإسلامية والمبادئ بل والعقائد الإسلامية، ثم تبين لنا بعد ذلك أنها كانت لإرضاء أطراف خارجية لاترضى بوجودنا في المشهد -وأظن أنهم كذلك إلى الآن-، ثم مواقف غير سديدة في لجنة المائة، ثم في إدارة الحكم والملفات المختلفة والموقف من المخالفين، ثم الإعلام المدمر، ثم الأحداث الكبرى في الفتنة التي وقعت واختيار الصدام الصفري، والإصرار على الإتهام بالخيانة والعمالة للمخالف، ثم التكفير والحكم بالنفاق إلى يومنا هذا، كل هذا ورد فعلنا فيه مجرد الدفاع، ورد البدع والمخالفات وتوضيحها، ودعم بقاء الدولة والمجتمع والذي لابد فيه من نقد للموقف المضاد لذلك، وإن توافق مع اتجاهات ليبرالية، أو قومية أو غيرها، لكن لم يكن لنا أن نخالف لمجرد المخالفة والمعارضة -لأنهم في تصنيف الكثيرين "ليسوا إسلاميين"-، فنحن كما ذكرنا نرفض المعارضة لأجل المعارضة والتصفيق لأجل التصفيق والموافقة، بل كل موقف وحدث حسب معطياته.
 
 ونحن نقول أن تغيير العلاقات لابد أن يبنى على تغيير في المنهج والمواقف، فلابد من تغيير منهج التكفير والتنفيق مع المخالفين في مواقف سياسية، وهذه مسألة منهجية عقدية وسلوكية خلقية، ثم لابد من تغيير خيار الصدام الصفري بل ولاغير الصفري، لنقبل اعتبار المخالف ضمن الصف الإسلامي القابل للتعاون، فكنا في الماضي -ومازلنا في الحاضر- نعد جماعات التكفير المعادية للمجتمع بجميع درجاتها ليست ضمن الصف الإسلامي القابل للتعاون أو حتى التغاضي عما عنده من الانحراف، وتاريخنا يشهد بذلك.
 
ونحن ومن خالفنا –أيضا- نتخذ نفس الموقف من "داعش" و"أنصار بيت المقدس" ونحوها من الجماعات، فليعودوا فسوف نعود، وليغيروا فسوف نغير، فلا تغرنّكم أيها السلفيون دعوات إصلاح للعلاقات لاتبنى على ذلك، بالعواطف القوية أو الشعارات الرنانة التي لاتجد لها تطبيقا في الأرض، والله المستعان.