العمل البنائي العلمي والتربوي

  • 168

مرجحات كفة الأمم والشعوب والطوائف والجماعات في المواجهات التي تحصل بينها وبين أعدائها ومخالفيها لا تتوقف على وجود شخصيات فذة عظيمة، بقدر ما تعتمد على حال غالبية الأفراد المنتمين للأمة، وأمتنا الاسلامية أمة ودولًا وشعوبًا وجماعات دعوة إلى الله لابد لها أن تدرك أهمية هذه الحقيقة، فلابد أن ترجّح كفة المجموع بمقاييس الإيمان، إضافة إلى موازين الأسباب الكونية التي قدرها الله عز وجل.
 
ونحن نجد من أوضح الأمثلة على ذلك قصة موسى صلى الله عليه وسلم، في أمره لقومه بالجهاد لتحرير الأرض المقدسة التي كتب الله لهم.
 
نعم، أهلك الله فرعون وجنده ونصر بني إسرائيل عليهم فكانوا هم الغالبين، لشدة كفر وطغيان وجبروت وظلم فرعون وهامان وجنودهما، لا لقوة الإيمان عند أفراد بني إسرائيل، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.
فلم يذكر الله بني إسرائيل في هذا المقام بالإيمان والعمل الصالح والعبادة كما وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، بل وصف بني إسرائيل بالاستضعاف بعد ذكر جبروت فرعون وفساده، فدل على أن النصر الذي تحقق هو لتحقيق إرادة الله في كسر الطغاة المفسدين المتجبرين، وجبر المستضعفين المغلوبين المظلومين، وهي سنة ماضية في كل متكبر ومظلوم.
 
أما في دخول الأرض المقدسة لتكوين الدولة فلم يقع لهذا الجيل من بني إسرائيل رغم وجود الشخصية الفذة العظيمة لموسى عليه السلام وهارون عليه السلام، ووجود فئة مؤمنة {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}، وذلك لما كان الأكثر من بني اسرائيل ممن قالوا {يا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، والذي يلاحظ من الآية أن درجة الطاعة لموسى لم تكن تامة رغم وجود الفئة المؤمنة حتى لم يستطع موسى أن يضمن إلا نفسه وأخيه {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.

 
فكان هناك حاجة لتربية من نوع جديد لجيل جديد كان من علاماتها {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا} الأمثل فالأمثل، اختارهم على عينه، ممن لم يعبدوا العجل، وذهبوا لميقات الله تعالى ليعتذروا لربهم عن قومهم في عبادتهم العجل، ويعتذروا عن أنفسهم في عدم تعضيد هارون عليه السلام حين نهاهم عن عبادة العجل حتى كادوا أن يقتلوه، {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، فرغم النقاء العلمي العقدي كان هناك تقصير دعوي عملي أدى إلى انحراف الأكثر وعبادتهم العجل، وكانت الخطوة الأولى هي اختيار موسى لهؤلاء السبعين، وهو لا يمكنه أن يصلح الأمة بغير العمود الفقري لهذا الكيان والأعمدة الخرسانية لهذا البناء، وإلا صارت كتلة متميِّعة يلعب بها أهل الفتن كما فعل السامري وكما يفعل أهل البدع بطوائف من الأمة وخاصة شبابها من حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، وكان من علامات التربية الجديدة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}.
 
فلم تكن صحبة موسى لفتاه يوشع بن نون في رحلته لمجرد الخدمة؛ فموسى تحمل أضعاف ذلك وحده، ولكن كان لإعداده للقيادة من بعده، مع خيرة من الأمة المؤمنة خاصة السبعين المختارين، وقد كان؛ وهو الذي صار نبي بني إسرائيل الذي حبس الله له الشمس حتى فتح بيت المقدس آخر ساعة من عصر يوم الجمعة.
 
ويلاحظ من القصة في الآيات الكريمة أن موسى حين كان لا يملك إلا نفسه وأخيه لم يؤمر بقتال الكفار من أهل بيت المقدس هو وأخوه، رغم عظم الإيمان الذي قبلهما، نبيان رسولان، وموسى كليم الله، وأحد أولي العزم من الرسل، وأفضل الخلائق بعد محمد وإبراهيم صلى الله عليهم وسلم؛ لأنه لابد أن تراعى الأسباب الكونية القدرية والقوة والضعف والقدرة والعجز، فليس التمكين أوجدهما، ولا لهما وحدهما، والله قادر على أن يمكن موسى وهارون بآية من عنده، كما أهلك فرعون بالغرق في البحر، لكن الكفة هنا لا ترجح إلا بمجموع موازين الإيمان والصفات الصالحة والعمل والعبادة والحال والقلب والأخلاق السامية للطائفة، لا للأفراد المتميزين فقط، وإن كان هذا لا يتحقق إلا بالاجتباء والاصطفاء والاختيار والبناء «الفولاذي والخرساني»، في العقيدة والعمل والسلوك لهؤلاء؛ ليؤثروا في المجموع الذي إن استجاب لهم بالقدر الكافي الذي تكون فيه الطائفة المؤمنة فيهم قادرة على قيادة الأمة في مرحلة التمكين بالإسلام والإيمان والإحسان؛ فسوف يحصل النصر والفتح، وإن وجد فيهم قلة ممن يغل كالذي التصقت يداه بيد يوشع بن نون لما غلّ من الغنيمة، ولو وجد فيهم من يريد الدنيا أكثر من الآخرة.
 
لكن التمكين للمجموع؛ فالعبرة بالأكثر، ولو علمنا أن عدد المنافقين الذين نزلت في شأنهم معظم سورة براءة كان بضعة وثمانين رجلاً غير عدد النساء، وكان مجموع الجيش المسلم ثلاثين ألفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم غير أصحاب الأعذار بالمدينة، لعلة أن النفاق لم يكن الأغلب الأعم، والفساد لم يكن إلا قلة، ولذا حصل الفتح لهذا الجيل.
 
وإن لم يكن في هذه الغزوة التربوية لا القتالية؛ فإنه لابد من مراعاة الأسباب القدرية الكونية في أي مواجهة، والبعض منا يظن خطًا منه أن قول تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} يتعارض مع مفهوم قوله تعالى: {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وليس هناك تعارض؛ فالصبر وصف لازم في الاثنين، ومع ذلك فلابد من مراعاة سنة القوة والضعف كما في صدر الآية {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، وهي التي نسخت ثبات الواحد أمام العشرة.
 
ولذا كان معنى {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ}، أي قادرة على القتال تستطيع المواجهة، ولو كانت أقل من عدوها، لكن ليس ذلك لقتال واحد أو اثنين ولا عشرات أو عدة مئات أمام الألوف المؤلفة والقوة الفائقة، بل لابد من تناسب مع الحال الإيماني والبناء العلمي والعملي والسلوكي، فضلًا عن أمر العُزّل بالثبات ليقتلوا يقينا أو يؤسروا، فهنا يحرم الثبات ويجب الانصراف إجماعًا، نقله الثوري عن إمام الحرمين قطعا، ونقله ابن جزي الغرناطي عنه إجماعًا.
 
فإذا اجتمع نقص الأسباب الشرعية الإيمانية التربوية أو انعدامها بالبدعة والانحراف ونقص الأسباب الكونية القدرية بالقلة والضعف والعجز؛ لم يكن الأمر بالمواجهة أمرأ شرعيا بل تهوراً وجهالة وخرقاً وحمقاً يحاسب عليه العبد في الدنيا والأخرة، وإن سماه البعض بأحسن الأسماء.
 
فالواجب علينا وقد تبين ضعف صفنا من الجهات المختلفة -الايمانية والقدرية الحسية- الاهتمام بإعادة البناء وترميم الموجود، علميا وعباديا وسلوكيا، وترتيب الأولويات لتوفير الأوقات لهذه المهمات .. والله المستعان.