البداية والنهاية

  • 381

بالأمس القريب كان آخر العام وآخر الشهر وآخر الأسبوع، فمتى تكون آخر الذنوب والمعاصي؟ ومتى يكون آخر التقصير والإهمال والتفريط؟ ومتى يكون آخر التخلف عن الطاعات والتقصير في الصلوات؟ ومتى تكون آخر المظالم والاعتداءات وآخر التكبر والإعجاب بالرأي وسوء الظن؟ ومتى تكون آخر الكذبات والغدرات؟ ومتى ... ومتى ...؟ بل متى تكون آخر الغفلات والظلمات ... ومتى النهاية؟ بل متى يكون آخر العمر؟


أخي الحبيب:
للأسف منا من يُحدّث فيكذب أو يُعِّرض .. ومنا من يُخلف وعده .. ومنا من يخاصم فيفجر .. ومنا من إذا عاتبته أو نصحته تكبَّر وتغطرس وأخذته العزة بالإثم .. ومنا من يخالفك فيكفرك .. ومنا من يرى المنكر ولا يتأثر ولا يتمعر وجهه لله، وكأن القلب قد مَرِضَ أو مات .. ومنا من ليس له همٌ ولا دعوةٌ ولا يعمل لخدمة دين الله .. ومنا .. ومنا .


شغلتنا إرادة الدنيا ونسينا إرادة الآخرة، كيف لا وقد قال تعالى: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة).


فمتى تكون إذًا البداية؟ 
بداية الصلاح والإصلاح، بداية العلم والعمل، بداية الدعوة إلى الله، بداية الاستقامة من جديد (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك).


أخي الحبيب: (إن الله يغرس فى هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته إلى قيام الساعة) هل ترى نفسك منهم؟ إذا أردت أن تعرف مقامك عند الملك فانظر بأي شيء يشغلك، وفى أي شيء يستخدمك .


أخي الكريم:
هل أنت مشغول بالدنيا وزينتها ولهوها وزخارفها ومادتها؟


هل انت مشغول بالبيت والزوجة والاولاد والحياه ؟


هل أنت مشغول بوسائل التواصل الاجتماعي الفيس وتويتر والواتس؟


أم أنت مشغول بالآخرة، مهموم لموقفك بين يدي ربك وتُعد لذلك العُدة وتؤدي حق ربك وأهلك ونفسك؟
 
أخي الحبيب؛ إذا شعرت بالتخبُّط والإحباط ولا تدري أين البداية وكيف النهاية؛ فتأكد أنك لم تُولد بعد! نعم لم تُولد بعد؛ إن أكثر الناس وُلِدَتْ أجسامهم ولم تُولد قلوبهم، بل ظلت حبيسة في بطن الشهوات والجهالات والظلمات، وللأسف فإن أكثر الناس يموتون ولم يُولدوا بعد.


وفي الأثر عن عيسى عليه السلام: "إنكم لن تلجوا ملكوت السماوات حتى تُولدوا مرتين". والقلب إذا عَرِفِ ربه ثم توجَّه إليه بالعبادة؛ فقد وُلِدَ من جديد، وهذه هي الولادة الحقيقية ولادة القلوب لا ولادة الأبدان، ولادة القلوب من رحم الشهوات والبُعد عن طاعة الله، ولادة القلوب من إرادة الدنيا إلى إرادة الآخرة، ولادة القلوب من السعي لمرضاة الذات إلى السعي لرؤية وجه الملك ذي الجلال والإكرام (وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى . إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى . ولسوف يرضى).


فقلبُ العبد متى ظل لا يعرف الطريق إلى مولاه فهو لم يُولد بعد.


أخي الحبيب؛ بالقرآن تلاوة وفهمًا وعملًا يُبصر القلب ويُولدُ من جديد، وبالطاعات وإرادة ما عند الله يُولد القلب من جديد، وبالذنوب والمعاصي يمرض القلب وقد يموت ويرجع العبد يتخبَّط في الظلمات في رحم الشهوات مِن جديد؛ فالذنوب هي الران التي تَرُدُ القلب مرة ثانية إلى بطن الشهوات والظلمات والشبهات؛ فلا يُبصر معها حقائق الوجود، ولا يتلذذ بعبادة الرب المعبود؛ فالنظرة والكلمة والشهوة رانٌ على القلوب (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).


أخي الحبيب؛ القلب إذا وُلِدَ من جديد أدرك إدراكات لم يكن يدركها، وعلم ما لم يكن يعلم من قبل، والدعوة إلى الله والعمل على هداية عباد الله إلى الله سببٌ من أسباب ولادة القلب وحياته وانشراحه، وابن القيم يذكر أنه "كما أنك سببٌ فى هداية قلوب الخلق إلى الله؛ فإن الله يهدى قلبك إليه، فالجزاء من جنس العمل"، فترى ما لم تكن ترى، وتتلذذ بما لم يتلذذ به غيرك، فتقرأ الآيات فيفتح الله عليك بإشراقات لم تكن تدركها من قبل ولم يدركها غيرك .


أخي الحبيب؛ القلب الذي وُلِدَ يشعر أن هناك شيئًا آخر .. هناك بداية ونهاية. 
فهل إلى بداية من جديد قبل الرحيل؟ 
نحُط رحالنا ونُرتِّبُ أحوالنا لننطلق من جديد قبل الرحيل .


فكم من عزيز قد انتهى أجله فرحل، وكم من شيءٍ كان يُسعدنا في الحياة لكنه ذهب، وكأن الحياة تخبرُنا أنه لا شيء يبقى إلى الأبد، وكأن الآخرة تُخبرُنا بأنك إن لم تنفع نفسك فلن ينفعُك أحد (يوم تأتي كلُّ نفسٍ تُجادِل عن نفسها وتُوفَّى كلُّ نفسٍ ما عملت وهم لا يُظلمون).


قال الأندلسي:

عندما يأفُل بلا رجعةٍ نجمي وتغربُ إلى الأبد شمسي
ولا تسمـــــــع آذنُكم كَلِمــي ولا ترى عيونُكم رسمي
وقتها تذكرونى بدعوة تسري بليلٍ تنفعُني في رمسي
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.