عاجل

ذكرى 25 يناير .. وحاجتنا لفهم الواقع

  • 160

كثيرًا ما يكون الواقع مؤلمًا لنا، وعلى خلاف ما كنا نتوقعه، أحيانا بأسباب من داخلنا بحكم طبيعتنا البشرية الناقصة، وأحيانا بأسباب من غيرنا ممن يخالفوننا ويعادوننا ويؤذوننا بحكم وجود التدافع الذي قدره الله {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251].
 
وهذا يقتضي وجود الفساد في الأرض وسفك الدماء -وإن لم يكن مفسدا للأرض كلِّها- فلابد من وجود طائفة قائمة بالحق لا تنقطع إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. قال غير واحد من السلف: إني أعلم وجود الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين والعباد والزهاد والعلماء والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

وقال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرّهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة».
 
فالمؤمنون وُجِدوا في الأرض ليعبدوا الله، وسَط الفساد والظلم والكفر والنفاق، وأيضا ليقاوموا شهوات أنفسهم وشبهات الشياطين من الإنس والجن، من داخلهم وفي وسَط مجتمعهم.
 
فهذه العبودية هي أحب إليه سبحانه من أنواع العبوديات الاضطرارية، كعبودية السماوات والأرض والجبال؛ التي اختارت الطاعة مرة واحدة ولم تقبل تحمُّل أمانة الاختيار المتكرر والابتلاء والمحنة كل لحظة، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، وقال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
 
بل هذه العبودية من مؤمني البشر أحب إليه سبحانه وتعالى من عبودية بلا مدافعة ولا مقاومة، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَ?ئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} البينة {7}.
 
ونحن نواجه هذا الواقع الأليم لا بد أن ندرك أن الله سبحانه لم يكلفنا في معالجة ما لا نطيق، ولم يكلفنا أن نهلك أنفسنا أو ندمر طائفتنا وأُمّتنا؛ فالثبات على الحق لا يلزم منه إلقاء النفس إلى التهلكة ومعنى قوله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] لا يخالف معنى قوله: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:65-66].
 
فلابد من وجود نوعِ قدرة على مواجهة العدو، ولو كانت قوتنا نصف قوته، وأحيانا عُشر قوته، أما إذا كان التفاوت هائلا -أكثر من ذلك- كما كان في غزوة مؤتة؛ فالفتح هو الانصراف، لتحريز عباد الله المؤمنين،
 
واذا كان الثبات فيه الهلاك المحض من غير إحداث نكاية وجب الانصراف وحَرُم القتال والثبات -لا كما يقول الجهال أن الواجب هو تلقي الطلقات بصدور عارية وأن الانصراف كبيرة من الكبائر وتولٍ يوم الزحف! ويتأولون الآيات على غير تأويلها عند أهل العلم- فإذا كان هذا في قتال مع الكفار؛ فكيف بقتال بين المسلمين؟! المنتصر فيه خاسر والكل فيه سوف يُسأل عن الدماء التي أريقت بغير حق.
 
كذلك إن أجواء "الحديبية" ليست مخالفة لأجواء الفتح حتى يختار البعض أننا لن نقبل أن نعيش في أجواء "الحديبية"، نعوذ بالله من ذلك، فإن "الحديبية" فتح مبين هو الذي أدى إلى فتح مكة بحمد الله، فلا تعارض بين هذا وذاك.
 
إن تغيير الفساد هو حسب الطاقة؛ {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، والثبات الحقيقي هو الثبات على المنهج وعدم الاستكانة للباطل في مبادئه ومناهجه، فلابد أن تعيد الكيانات الدعوية حساباتها وتدرك الواقع الأليم، لتخرج منه بأقل الخسائر، تُحرِّز أبنائها للاستمرار في الطريق بعد ذلك.
 
أما مغالطة النفس والكذب في توصيف الواقع فلن نجني منه إلا مزيدًا من الخسائر، مزيدًا من الانقسام، مزيدًا من التحوصل خارج المجتمع أو ضده، مزيدًا من سوء استخدام المظلوميّة لقطع طريق الدعوة على أصحابها مما يؤدي إلى انحرافهم في منهجهم نحو فكر التكفير والعنف في غير موضعه، الذي ينبع من اليأس ثم من الهوى.
والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وهو ناصر دينه والعاملين به الى يوم القيامة .